الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كتاب الله وسنتي 2/2

كتاب الله وسنتي 2/2

كتاب الله وسنتي 2/2

الحمد لله وحدَه، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَّ بعدَه، وعلى آلِه وأزواجِه وصحبِه، ومن اهتدى بهديه واقتفى أثرَه، وبعد:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن للناسِ أسبابَ الهدايةِ والسعادة، وسبيل النجاة في الدنيا والآخرة حين قال: (تركتُ فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه) (رواه مالك في الموطأ)

فمن أراد الهدايةَ في الدارين، والسعادةَ في الحياتين، والفوزَ والنجاة في الدنيا والآخرة فليتمسك بهذين الأصلين: كتاب الله وسنة رسوله، علما وعملا، ودرسا وفهما، وتطبيقا وتنفيذا.

فالأصل الأول هو القرآن كما سبق، الروح التي أحيانا الله به من الموات، والنور الذي أضاء لنا به الظلمات، والذكر أي العز والمجد والرفعة الذي رفعنا به على جميع المخلوقات؛ هو المخرج من الفتن، والهادي من الضلال، والعاصم من الخذلان، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.

الأصل الثاني اتباع السنة
وأما الأصل الثاني، بعد الكتاب، فهو اتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ بها مع القرآن قِوامُ هذا الدين، وعليهما مدارُه، فإذا سقط واحدٌ منهما سقط الدينُ كله، وضاعت الدنيا والآخرة.

السنة: هي ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفة.. فهي أقوالُ النبي صلى الله عليه وسلم وأفعالُه وتقريراته..

السنة وحي كالقرآن
والسنة في حقيقتها وحي من الله تعالى أوحى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أوحى إليه بالقرآن الكريم.. فلا يقول شيئا، ولا يعمل شيئا، إلا ما أمره الله به أو أقره عليه، فليس شيء من عند نفسه.

والقرآن يؤكد أن السنة وحي أوحاه الله إلى نبيه:
. قال الله سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(النجم: 3ـ4).
. وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(النحل:44).. أي أنزلنا إليك السنة لتبين بها القرآن.
. وقال: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(النساء:113).. أي القرآن والسنة.

روى اللالكائي في أصول الاعتقاد بسند صحيح عن حسان بن عطية رضي الله عنه قال: "كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن، ويعلمه السنة كما يعلمه القرآن".
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إنِّي أوتيتُ الكتابَ ومثلَهُ معَهُ)(صحيح أبي داود).

الله يأمر بطاعة نبيه
وقد أمرنا الله سبحانه، وأمر عباده المسلمين بطاعة رسوله واتباع هديه، والتزام سنته في قوله وفعله؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}(النساء:59).. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}(النساء:64).. وقال: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(النساء:60).. وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(الحشر:7).. وقال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا}(الأحزاب:21)..

وأخبر أن من لم يتبع قوله عليه الصلاة والسلام وهديَه فقد ضل ضلالا مبينا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}(الأحزاب:36)..

ونفى الإيمان عَمَّن لم يرضَ بقولِه وحكمِه ويسلم له تمام التسليم فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(النساء:65).. وهذا أبلغ ما يكون في الأمر بالطاعة والنهي عن المخالفة.

وبين سبحانه أن الهدايةَ كلَّ الهدايةِ في لزوم سنته، واتباع هديه وطاعته، فقال: {إِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}(النور:54).
وأن الفتنةَ كل الفتنةِ، والضياعَ كل الضياعِ في ردِّ سنتِه ومخالفةِ أمرِه فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النور:63).

السنة مبينة للقرآن
وإنما أكد الله سبحانه على المسلمين الأخذَ بالسنة؛ لأنها تمامُ وحيِه، ولأن الناسَ إذا أخذوا بالقرآن وتركوا السنةَ هلكوا وضاعوا، وضلوا وزاغوا؛ لأن السنةَ هي التطبيقُ العمليُّ للقرآن، وبها يُعرفُ مرادُ الله من كتابه وكلامه.

فالقرآن فيه القواعد والأصول والأوامر.. والسنة تأتي لتوضح وتبين وتفصل.. تبين مجمله، وتوضح مشكله، وتفسر مبهمه، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه، وتبين للناس ما نُزِّل إليهم.

القرآن يقول {أقيموا الصلاة}: والسنة تشرح عددَ الصلوات، وأوقاتَها، وعددَ ركعاتِها، وشرائطَها، وأركانها، وسننها، وهيئاتِها (صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي)(رواه البخاري).

القرآن يقول {آتوا الزكاة}: والسنة تبين ما يؤخذ منه الزكاة وما لا يؤخذ منه، وقدر النصاب، وقيمة ما يؤخذ، وممن يؤخذ، ولمن يعطَى.
وقل مثل هذا في الصيام والحج (لتأخذوا عني مناسككم)(رواه مسلم بلفظ مقارب).

ومثل هذا في الأحكام والحدود الربانية
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(المائدة:38)..
فهل نقطع اليدين جميعا أم واحدة؟ وإذا كان.. فاليمين أم اليسار؟ ثم من أين تُقطَع؟.. وماذا لو سرق مرةً أخرى ماذا نصنع؟
فتأتي السنة لتبين ذلك كلّه وتفصله وتوضحَه.. فمن لم يعلم السنة تاه وضاع وضل وزاغ.. ولهذا وجب ولزم وتحتم اتباعُ السنة والانقيادُ لها.

قال الإمام مالك: "السنةُ سفينةُ نوحٍ مَن ركِبها نجا، ومن تركها غرق.. أو قال هلك".
قال صلى الله عليه وسلم: (كلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى)(البخاري).

الزنادقة ورَدُّ السنة
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر في هذه الأمة من يدعو إلى الأخذ بالقرآن وحده ونبذ السنة وتركِها، وقد حذرصلوات الله وسلامه عليه من هذا المسلك الضال ومن أهله وأصحابه فقال: (يوشِكُ أنْ يقعُدَ الرجلُ مُتَّكِئًا على أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بحديثٍ مِنْ حديثي، فيقولُ: بينَنَا وبينَكُمْ كتابُ اللهِ، فما وجدْنا فيه مِنْ حلالٍ اسْتَحْلَلْناهُ، وما وجدَنا فيه مِنْ حرامٍ حرَّمْناهُ، ألَا وإِنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ مثلَ ما حرَّمَ اللهُ)(رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح).

إن هؤلاء ضالون زائغون، وأكثرهم يقودهم هذا المسلك إلى الزندقة والخروجِ من دين الله بالكلية، والافتراء على الله وعلى رسوله وعلى الإسلام، واختراع شيء جديد لا يصلح أن ينسب إلى هذا الدين القويم..

وإنما كان سبب ذلك الضلالِ وتلك الزندقة تركَ السنة فإنها السياج الحامي، والحصن الحصين لحفظ الدين بعد القرآن الكريم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة