جاء الإسلام مكملاً لمكارم الأخلاق منادياً بالبُعد عن كل ما يثير الغرائز ويحرك الشهوات وذلك من أجل إصلاح البشرية والسمو بها عن مرحلة البهيمية والفوضى إلى مراتب مرتفعة من العفة والطهارة. قال عليه الصلاة والسلام: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ولأن الشهوات والغرائز الطبيعية جزء أساسي من تكوين الإنسان فقد سعى الإسلام لضبطها وتوجيهها التوجيه الصحيح فشرع الزواج قناة وحيدة لإشباع الغرائز والشهوات وإنشاء الأسرة التي هي النواة الرئيسية للمجتمع الإسلامي.
ولأن النفس أمارة بالسوء فقد حرَّم الإسلام كل ما يمكن أن يؤدي إلى إثارة غرائز الإنسان أو تهييج شهواته، لذا جاء الأمر الرباني للمسلمين بأن يغضوا من أبصارهم وأمر المسلمات بارتداء الحجاب يحفظن به أنفسهن وحرَّم عليهن التبرج والسفور ومخالطة الرجال غير المحارم، قال تعالى (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
ولأن أمر الحجاب في الإسلام عظيم فقد جاء الأمر الرباني للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام بأن يأمر أزواجه وبناته قبل نساء المؤمنين بارتداء الحجاب، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا). فإذا كان الأمر بالحجاب قد بدأ بأزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) وهن العفيفات الشريفات الطاهرات فكيف ببقية نساء المؤمنين وخاصة في هذا الزمان الذي انتشرت فيه الفتن وصار فيه الدين غريباً؟
من أجل ذلك توعَّد الله عز وجل المتبرجات المظهرات لزينتهن لغير أزواجهن بالعذاب الأليم يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم في وصف أهل النار (صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا).
التبرج هو إظهار المرأة زينتها لغير محارمها وهو من الأمور المحرمة في الإسلام لأن المقصود منه هو إثارة شهوات الرجال من غير الأزواج وإحداث الفتنة في المجتمع.
أما الحجاب فهو نقيض التبرج ويُقصد به الستر والإخفاء ومنه حاجب العين الذي يمنع عنها الغبار والأتربة وأشعة الشمس وحاجب الملوك أو الرؤساء والذي يمنع عنهم الدخلاء والمتطفلين والمتسكعين.
وتقتضي فطرة الإنسان العفة والطهارة ولذلك نجد أن إبليس اللعين عندما أغوى آدم عليه السلام وزوجه بالأكل من الشجرة المحرمة وتم له ما أراد، سقطت عنهما ثيابهما وبدت لهما عورتاهما فأخذا يلتقطان من أوراق الشجر ليخفياهما وذلك التصرف الطبيعي والتلقائي الذي قاما به من دون أن يأمرهما به أحد يدل على أن الأصل في الفطرة البشرية العفة والطهارة وإخفاء العورات.
قال سبحانه وتعالى: (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ).
كانت النساء قبل الإسلام وفي عهد الجاهلية يتبرجن ويلبسن الملابس الخفيفة ويمشين في الأسواق ويعرضن أنفسهن على الرجال، لذلك جاء الأمر من عند الله لنساء المسلمين بارتداء الحجاب، قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).
أما في العصر الحديث فقد تفننت النساء في ابتداع أساليب جديدة من التبرج والسفور وصارت المصانع الغربية تمد بلاد المسلمين بالملابس الضيقة الشفافة التي تكشف أكثر مما تستر، وتزيد من مفاتن النساء. وغمرت هذه المصانع أسواق المسلمين بأنواع كثيرة من المساحيق والطلاء والعطور المثيرة للشهوات وأنواع شتى ومتباينة من الأحذية التي تجعل النساء يتمايلن في مشيتهن ويبالغن في التغنج والدلال.
وعندما بدأت مظاهر الصحوة الإسلامية تدب في العديد من بلدان العالم وانتشر الحجاب في بلاد المسلمين ووسط بناتهم في الدول الغربية هاج الغرب وماج وتجاوب معه بعض أنصار الرذيلة ودعاة الفجور في بلاد المسلمين وبدأوا في محاربة الحجاب الإسلامي حرباً لا هوادة فيها ووصفوا الحجاب بأنه يغطي على عقل المرأة وأنه جزء من اضطهاد الإسلام لها ونعتوا المحجبات بنعوت لا تليق ورموهن بالتخلف والرجعية والاستسلام لسطوة الرجل وغيرها مما ينعق به الناعقون.
اتخذت هذه الحملة أشكالاً عديدة فمرة نسمع من يقول إن الحجاب يعزل المرأة عن بقية شرائح المجتمع ويحرمها من دورها وظهر من يدعو إلى (تحرير) المرأة وغيرها من الدعاوى الساقطة المردودة، ونسى هؤلاء الذين لا هم لهم إلا تحرير المرأة من قيمها واحترامها لنفسها أن الإسلام ما شرع الحجاب إلا صوناً للمرأة المسلمة وتكريما لها وإعلاءً لقدرها وتقديراً لدورها في المجتمع إذ أن المرأة المحجبة تكون بمنأى عن مشاكسات الذئاب البشرية ومصانة ممن لا يريدون لها إلا أن تكون متاعاً ومكاناً لتفريغ الشهوات.
وعندما يشعر هؤلاء أن ما ساقوه من حجج يتساقط من تلقاء نفسه نسبة لضعفه وعدم موضوعيته نجدهم يلجأون إلى الاستشهاد برأي بعض من يتدثرون برداء الدين من المستغربين والماركسيين وذوي المصالح الخاصة على أنهم من العلماء المسلمين فيلوون لهم أعناق الحقائق ويستشهدون بأدلة ليست في مكانها ويفسرون الأحكام الإسلامية حسب هواهم متوهمين أن هذه الافتراءات سوف تنطلي على الأمة الإسلامية، وما دروا أن علماء الأمة الأمناء على دينها واقفون لهم بالمرصاد مفندين حججهم ودعاواهم.
وعندما تأكد لهم أن الحجاب الإسلامي أصبح مطلباً شعبياً وأنه آخذ في الانتشار وسط نساء المسلمين لم يجدوا بداً من إعلان الحرب عليه، وخلال الفترة الماضية قامت العديد من الدول الغربية بشن حملة ضارية على الحجاب في المدارس ودواوين الحكومة.
تشتد هذه الحملة في فرنسا حيث فصلت السلطات التعليمية العديد من الطالبات المسلمات لإصرارهن على ارتداء الحجاب وتجلى اهتمام الحكومة الفرنسية بمحاربة الحجاب عندما أعلن رئيس الوزراء الفرنسي أنه قد آن الأوان (لاستئصال) الحجاب من المجتمع الفرنسي وأنه لا مكان في المدارس الفرنسية لطالبة محجبة، وأكد ذلك الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي زاد عليه أن الحجاب يمثِّل مشكلة ثقافية تهدد المجتمع الفرنسي العلماني ويجب التصدي لها بكل صرامة وحسم.
وتمتد الحملة المسعورة وتشمل الولايات المتحدة حيث قضت محاكمها بتأييد فصل العديد من الطالبات المحجبات، كما تتعرض النساء المحجبات للاعتداء بسبب الحجاب الذي يبدو أنه يثير حساسية بعض المتعصبين في المجتمع الأمريكي.
وفي هولندا تأخذ الحملة على الإرهاب طابعاً أكثر سخونة حيث تشن الصحف التي تتبع لليمين المتطرف حملة متواصلة شعواء على الحجاب وأشادت هذه الصحف بمبدأ مدير إحدى المدارس والذي رفض السماح لطالبة محجبة بدخول المدرسة وبرر موقفه بأنه (يؤمن بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة) وأن حجاب المرأة المسلمة يرمز (للظلم الواقع على عاتقها).
وفي المقابل نجد نماذج مشرقة لبعض الدول الأوروبية التي اعترفت بالحجاب كجزء من الخصوصية والحرية الشخصية للمسلمات حيث قضت المحكمة العليا الألمانية بحق المسلمات في ارتداء الحجاب ومنعت الجهات المعنية من التغول على ذلك الحق وضمان تمتع المسلمين به.
كذلك فإن الدنمارك قد أقرت بهذا الحق للمسلمات حيث قضت محكمة دنماركية بفصل معلم ومعلمة قاما بطرد طالبة صومالية من المدرسة لإصرارها على ارتداء الحجاب وقررت المحكمة أن ارتداء الحجاب لا يتنافى مع التعاليم المعمول بها.
ومما يؤسف له أن بعض المسؤولين في دول عربية وإسلامية انساقوا وراء هذه الحملة الجائرة وانضموا للهجمة الشرسة على الحجاب وحملوا لواءها وأعلنوا - صراحة - منعه وسط طالبات المدارس وقاموا بفصل من أصرت عليه بوصفه جزءًا أصيلاً من هويتها الدينية وشخصيتها العامة.
ففي مصر على سبيل المثال تتعرض النساء المحجبات لمضايقات عديدة فقد تم قبل فترة منع مذيعة بإحدى القنوات الفضائية من الظهور على شاشة التليفزيون بسبب ارتدائها للحجاب بدعوى أنه (يثير الحساسيات)، وتم كذلك فصل امرأة محجبة تعمل مساعدة طيار في إحدى شركات الطيران بسبب رفضها التخلي عن الحجاب رغم أن ارتداءه لم يؤثر على كفاءتها ومقدرتها على أداء عملها.
كما أقدمت مدرسة (شامبليون) بالإسكندرية والتابعة للسفارة الفرنسية بفصل طالبة مسلمة بسبب الحجاب مما أثار الرأي العام المصري ضد إدارة المدرسة، وتدخل شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي وهاجم إدارة المدرسة ودعاها للالتزام بالتقاليد الإسلامية السائدة في مصر، وكذلك قامت إدارة إحدى المدارس الخاصة بطرد معلمة محجبة وهددتها بالفصل وعدم إعادتها للعمل إلا بعد أن تخلعه.. والأمثلة على تلك الحملة كثيرة ومتعددة.
وفي تونس أقدمت إدارة معهد القنال الثانوي على منع 38 طالبة من أداء الامتحانات بسبب ارتدائهن الحجاب، كما أقدمت إدارة معهد المنذر بن عكاز على رفض السماح لطالبات مسلمات بأداء الامتحانات بسبب الحجاب، وبالرغم من أن بعضهن اضطررن إلى خلع الحجاب ليتمكن من أداء الامتحانات إلا أن مدير المعهد أصر على رفضه واشترط على الطالبات الذهاب إلى قسم الشرطة وتوقيع تعهد بعدم ارتداء الحجاب مستقبلاً!!
وكانت السلطات التعليمية التونسية قد أصدرت في عام 1981م منشوراً قضى باعتبار الحجاب رمزاً طائفياً يجب محاربته ومنعه في المدارس الثانوية والجامعات، مما أدى لزيادة التمييز ضد المحجبات في الجامعات وحتى بعد تخرجهن حيث يواجهن صعوبات بالغة في الحصول على وظائف حكومية.
ويبقى السؤال الكبير هو: لماذا اتحد كل هؤلاء على محاربة الحجاب؟ ولماذا هذه الحملة الشرسة وفي هذا التوقيت بالذات؟ هل السبب هو فوبيا الحجاب والخوف من كل ما يرمز للإسلام؟ أم أنها حالة مرضية وترسبات نفسية كانت تعتمل في دواخل مرضى النفوس ولم تجد فرصة للخروج إلى العلن بهذه الصورة إلا بعد تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من تطورات عالمية وما يسمى بالحرب على الإرهاب؟؟
ولكن يبقى أصحاب القلوب المطمئنة العامرة بالإيمان على يقين بأن العاصفة سوف تزول وأن سحب التشكيك سوف تنقشع عما قريب وأن الله متم نوره ولو كره الكافرون.
- الكاتب:
نشرة العالم الإسلامي - التصنيف:
تحرير .. أم تغرير