الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وساوس الطهارة جعلتني أكرر الوضوء وأؤخر الصلاة عن وقتها!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله.

عمري 16 سنةً، صارت معيشتي ضنكًا، ومشكلتي أنني في أول عهدي بالصلاة كنت أصلي، وأقوم للفجر في وقته، وأقرأ القرآن بشكل عادي، وأتجاهل وساوس الريح، إلى أن بدأتُ أعيد الوضوء مرات عديدة للصلاة الواحدة، وأُلْحِقُ الحاضرة بأختها، وأصلي الفوائت بوضوء واحد، وصرت أتوضأ لكل صلاة، وأكمل الصلاة على الساعة 8 ليلًا، ثم الـ 9 ثم الـ 10، إلى أن جاء يوم وصل الوقت إلى 2 أو 3 صباحًا، ولم أصل شيئًا، وهذا أغضب عائلتي مني.

ما زاد الطين بلةً أني صرت أظن ظنًّا قويًّا أن ملابسي تنجَّست بعد الاستنجاء؛ لأن الماء قبل إكمال الاستنجاء يتطاير ويلوثها، وأعتقد أني لم أستنج جيدًا، ودائمًا أجد المنديل أصفر اللون، ولا أستطيع غسل النجاسة جيدًا؛ لأن يدي تنكمش، وليس لدي ما أجفف به ملابسي.

وأحياناً أتحامل على نفسي، وأغسل جسدي ثم ملابسي بالماء تفاديًا للنجاسة، فتغضب أمي، وصار لدي وسواس النجاسة، أو على الأرجح أنه ليس وسواسًا؛ لأنه بالنسبة لي يقين، وقررت تبديل كل ثوب داخلي وخارجي نجس، إلى أن تراكمت ثيابي -التي في ظني أنها نجسة- على فراشي، وأمي تغسل لي ثيابي، وأنا لا أقدر، ثم تسقط الملابس الطاهرة على السجاد الذي أمشي عليه بحذاء المدرسة، وليتني ما فعلت، وتقول لي أمي: "انضحي على مكان النجاسة بالمعقم واتركيها وسوف يطهر المكان"، لكني أعلم أن مجرد النضح لا يجعل الثوب أو السجاد طاهرًا.

لم أعد أجد الوقت لمأكلي، ولا للدراسة، أو لقراءة القرآن، أو للّهو، أو للجلوس في سهرة مع أفراد عائلتي، وصرت بمثابة حيوان في المنزل يُسرف في استعمال الماء والورق.

أرجو الجواب وشكرًا جزيلاً.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ مرام حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك -أختنا الكريمة- في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله الكريم أن يبارك فيك، وأن يحفظك، وأن يُقدِّر لك الخير حيث كان ويرضيك به، وبعد:

أختنا الكريمة: هوني على نفسك؛ فإن المسألة -إن شاء الله- يسيرة، وما تتحدثين عنه مَرَّ به -وربما أصعب من ذلك- آلاف البنات غيرُكِ، وحين فهمن المسألة على وجهها ذهب عنهنَّ هذا العناء، فأمِّلي في الله خيرًا، واعلمي أن ما تمرين به هو وسواس قهري استخدم غفلتك حتى يتحكم فيك، ويشغلك عن واجباتك كلها، وهو -أي الشيطان- يتحكم فيك لسببين:
1- جهلك بالأحكام الشرعية المترتبة على النجاسة ومآلها.
2- تماديك في الاسترسال مع الوسواس، واجتهادك في تتبع كل صغيرة وكبيرة.

لذلك استغل الشيطان ضعفك ليلعب بك، وأدخلك في دوامة القلق المتعب، مع أن الخروج من ذلك أمرٌ يسير إذا فعلت ما يلي:

أولاً: تجاهل الوسواس، واحتقاره، وعدم الاهتمام به، هذا أول ما ينبغي عليك فعله، أن تحتقري هذه الوساوس، وأن تقولي في نفسك: وسواس سخيف، ووسواس حقير، وكلام فاض، ومثل هذه الأساليب هي من تجعل سطوته عليك تقل.

ثانيًا: خذي هذه القاعدة واجعليها في عقلك:"اليقين لا يخرج منه إلَّا بيقين"، وهذه قاعدة فقهية ونفسية في آن واحد؛ فإذا شككت في نجاسة أو في الإصابة بها، أو في نجاسة ثوبك، أو يدك، أو أي مكان أنت فيه، فالأصل طهارتها، فلا تعدلي عن ذلك إلا بيقين، ولا تتحققي، أي لا تقولي أريد أن أتأكد وأتحقق، فالله الذي خلقك لم يأمرك بذلك، ولم يكلفك ما لا تطيقين.

ثالثًا: لا تحكمي على نجاسة شيء إلا بعد التيقن منه، بحيث لو قيل لك هل تستطيعين أن تقسمي على نجاسة ثوبك لأقسمت، ومعنى ذلك إن أتتك شبهة أن ثوبك عليه نجاسة، فقولي في نفسك: هل أستطيع أن أقسم على وجودها، فإن ترددت، فأنت على طهارة ولا عبرة لك بغير ذلك، وإذا شككت فيما أصابك هل هو نجس أو طاهر، فالأصل طهارته.

رابعًا: إن ترددت في أمر هل هو نجس أم لا، فخذي بالأيسر، واجعليه من المعفي عنه، وليس هذا ترخصًا، بل هذه أقوال أهلم العلم.

خامسًا: اقرئي معنا هذا النص الذي رواه مالك في موطئه وغيره، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ فِي رَكْبٍ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، حَتَّى ‌وَرَدُوا ‌حَوْضًا، ‌فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ هَلْ تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا». وورد أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توضأ من جرة نصرانية. وأنه مرَّ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ بِمِيزَاب فَقَطرَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ مَاءٌ، فَقَالَ صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ ‌مَاؤُك ‌طَاهِرٌ ‌أَو ‌نَجِسٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ: «يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ».

فانظري إلى فعل عمر -رضي الله عنه-، مع أن السِّباع قد تَرِدُ، إِلَّا أنه أخذ بالظاهر، وهذا من؟ هو أمير المؤمنين وصاحب رسول الله (ﷺ).

سادسًا: الدواء بيدك، وخلاصته: ألَّا تسترسلي مع الوساوس، بل واحتقريها، ولا تعيدي الوضوء بعد أن أنهيته، ولا تخرجي من اليقين إلا بيقين، وبعد الانتهاء من الوضوء لا تَتَحققي، واعلمي أن صلاتك صحيحة.

سابعًا: احذري من تلاعب الشيطان بك؛ لأنه يتعمد أن يوقعك في الحرج الشرعي، فيضيع عليك الصلاة في وقتها، وهذا محرم باتفاق أهل العلم، وكذلك جمع الصلوات مع بعضها أمر لا يجوز شرعًا، بل قال أهل العلم إن اتخاذ ذلك عادة، منكر عظيم وكبيرة من أعظم الكبائر، وقد توعد الله فاعل ذلك في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5]. وفي قوله تعالى: {خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].

ثامنًا: العبادة مبناها على التوقيف، وقد حدد الله تعالى لكل صلاة وقتًا، وقد قال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103].

تاسعًا: من حدث له تأخير صلاةٍ أو أكثر حتى خرج وقتها؛ فالواجب عليه هو التوبة والاستغفار، والندم على ما اقترف من الذنب العظيم، وأن يسرع إلى المبادرة إلى قضاء تلك الفوائت، فقد قال (ﷺ): «‌مَنْ ‌نَسِيَ ‌صَلَاةً، فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} » [متفق عليه].

والشيطان -أيتها الأخت الكريمة- يعمد إلى إدخالك في هذه الوساوس حتى تضيع عليك صلاتك، فانتبهي وخذي بما ذكرناه من ملاحظات، وستجدين الخير -إن شاء الله-.

نسأل الله لك التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً