وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة : وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه ، ويلوم ويعاقب عليه ، وأنه لو شاء لعصمه منه ، ولحال بينه وبينه ، وأنه سبحانه لا يعصى قسرا ، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته مشهد الحكمة ، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين .
وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئا عبثا ولا سدى ، وأنه له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر ، وطاعة ومعصية ، وحكمة باهرة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها ، وتكل الألسن عن التعبير عنها .
فمصدر قضائه وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حكمته الألباب ، وقد قال تعالى لملائكته لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فأجابهم سبحانه بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون فلله سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب آثارها من الآيات والحكم ، وأنواع التعرفات إلى خلقه ، وتنويع آياته ، ودلائل ربوبيته ووحدانيته ، وإلهيته ، وحكمته ، وعزته ، وتمام ملكه ، وكمال قدرته ، وإحاطة علمه ما يشهده أولو البصائر عيانا ببصائر قلوبهم ، فيقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك إن هي إلا حكمتك الباهرة ، وآياتك الظاهرة .
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى عليه السلام إليهم بل قبل مبعثه إلى حيث إغراقهم ، لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات والعجائب ، وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى : اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه ، وأمنعه عن الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر ، وكذلك فعل سبحانه فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر .
وكذلك إظهاره سبحانه ما أظهر من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بسبب ذنوب قومه ومعاصيهم ، وإلقائهم له في النار ، حتى صارت تلك آية ، وحتى نال إبراهيم بها ما نال من كمال الخلة .
وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده ، بسبب صبرهم على أذى قومهم ، وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم .
وكذلك اتخاذ الله تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم بسبب صبرهم على أذى بني آدم من أهل المعاصي والظلم ، ومجاهدتهم في الله ، وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو بعينه وعلمه ، واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات .
إلى غير ذلك من المصالح والحكم التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم ، وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله ويسخطه ، وكان ذلك محض الحكمة لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده من فوته بتقدير عدم المعصية .
فحصول هذا المحبوب العظيم أحب إليه من فوات ذلك المبغوض المسخوط ، فإن فواته وعدمه وإن كان محبوبا له لكن حصول هذا المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المكروه المسخوط ، وكمال حكمته تقتضي حصول أحب الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين ، وأن لا يعطل هذا الأحب بتعطيل ذلك المكروه ، وفرض الذهن وجود هذا بدون هذا ، كفرضه وجود المسببات بدون أسبابها ، والملزومات بدون لوازمها مما تمنعه حكمة الله ، وكمال قدرته وربوبيته .
ويكفي من هذا مثال واحد ، وهو أنه لولا بأكله من [ ص: 411 ] الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى ، من امتحان خلقه وتكليفهم ، وإرسال رسله ، وإنزال كتبه ، وإظهار آياته وعجائبه وتنويعها وتصريفها ، وإكرام أوليائه ، وإهانة أعدائه ، وظهور عدله وفضله ، وعزته وانتقامه ، وعفوه ومغفرته وصفحه وحلمه ، وظهور من يعبده ويحبه ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان . المعصية من أبي البشر
فلو قدر أن آدم لم يأكل من الشجرة ، ولم يخرج من الجنة هو وأولاده لم يكن شيء من تلك ، ولا ظهر من القوة إلى الفعل ما كان كامنا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة ، ولم يتميز خبيث الخلق من طيبهم ، ولم تتم المملكة ، حيث لم يكن هناك إكرام وثواب ، وعقوبة وإهانة ، ودار سعادة وفضل ، ودار شقاوة وعدل .
وكم في تسليط أوليائه على أعدائه ، وتسليط أعدائه على أوليائه ، والجمع بينهما في دار واحدة ، وابتلاء بعضهم ببعض من حكمة بالغة ، ونعمة سابغة ! .
وكم فيها من حصول محبوب للرب ، وحمد له من أهل سماواته وأرضه ، وخضوع له وتذلل ، وتعبد وخشية وافتقار إليه ، وانكسار بين يديه أن لا يجعلهم من أعدائه ، إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم ، وإعراضه عنهم ، ومقته لهم ، وما أعد لهم من العذاب ، وكل ذلك بمشيئته وإرادته ، وتصرفه في مملكته ، فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون ، على أشد وجل ، وأعظم مخافة ، وأتم انكسار .
فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له ، وهاروت وماروت وضعت رءوسها بين يدي الرب خضوعا لعظمته ، واستكانة لعزته ، وخشية من إبعاده وطرده ، وتذللا لهيبته ، وافتقارا إلى عصمته ورحمته ، وعلمت بذلك منته عليهم ، وإحسانه إليهم ، وتخصيصه لهم بفضله وكرامته .
وكذلك أولياؤه المتقون ، إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم ، وغضبه عليهم ، وخذلانه لهم ، ازدادوا خضوعا وذلا ، وافتقارا وانكسارا ، وبه استعانة وإليه إنابة ، وعليه توكلا ، وفيه رغبة ، ومنه رهبة ، وعلموا أنهم لا ملجأ لهم منه إلا إليه ، وأنهم لا يعيذهم من بأسه إلا هو ، ولا ينجيهم من سخطهم إلا مرضاته ، فالفضل بيده أولا وآخرا .
[ ص: 412 ] وهذه قطرة من بحر حكمته المحيطة بخلقه ، والبصير يطالع ببصيرته ما وراءه ، فيطلعه على عجائب من حكمته ، لا تبلغها العبارة ، ولا تنالها الصفة .
وأما حظ العبد في نفسه ، وما يخصه من شهود هذه الحكمة فبحسب استعداده وقوة بصيرته ، وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته ، ومعرفته بحقوق العبودية والربوبية ، وكل مؤمن له من ذلك شرب معلوم ، ومقام لا يتعداه ولا يتخطاه ، والله الموفق والمعين .