فصل
: والمقرون بالرب سبحانه وتعالى أنه صانع العالم نوعان
[ ص: 84 ] نوع ينفي مباينته لخلقه ، ويقولون : لا مباين ولا محايث ، ولا داخل العالم ولا خارجه ، ولا فوقه ولا تحته ، ولا عن يمينه ولا عن يساره ، ولا خلفه ولا أمامه ، ولا فيه ولا بائن عنه .
فتضمنت الفاتحة الرد على هؤلاء من وجهين :
أحدهما : إثبات ربوبيته تعالى للعالم ، فإن الربوبية المحضة تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات ، كما باينهم بالربوبية ، وبالصفات والأفعال ، فمن لم يثبت ربا مباينا للعالم ، فما أثبت ربا ، فإنه إذا نفى المباينة لزمه أحد أمرين ، لزوما لا انفكاك له عنه البتة : إما أن يكون هو نفس هذا العالم ، وحينئذ يصح قوله ، فإن العالم لا يباين ذاته ونفسه ، ومن هاهنا دخل أهل الوحدة ، وكانوا معطلة أولا ، واتحادية ثانيا .
وإما أن يقول : ما ثم رب يكون مباينا ولا محايثا ، ولا داخلا ولا خارجا ، كما قالته الدهرية المعطلة للصانع .
وأما هذا القول الثالث المشتمل على جمع النقيضين : إثبات رب مغاير للعالم مع نفي مباينته للعالم ، وإثبات خالق قائم بنفسه ، لا في العالم ولا خارج العالم ، ولا فوق العالم ولا تحته ، ولا خلفه ولا أمامه ، ولا يمنته ولا يسرته فقول له خبيء ، والعقول لا تتصوره حتى تصدق به ، فإذا استحال في العقل تصوره ، فاستحالة التصديق به أظهر وأظهر ، وهو منطبق على العدم المحض ، والنفي الصرف ، وصدقه عليه أظهر عند العقول والفطر من صدقه على رب العالمين .
فضع هذا النفي وهذه الألفاظ الدالة عليه على العدم المستحيل ، ثم ضعها على الذات العلية القائمة بنفسها ، التي لم تحل في العالم ، ولا حل العالم فيها ، ثم انظر أي المعلومين أولى به ؟
واستيقظ لنفسك ، وقم لله قومة مفكر في نفسه في الخلوة في هذا الأمر ، متجرد عن المقالات وأربابها ، وعن الهوى والحمية والعصبية ، صادقا في طلب الهداية من الله ، فالله أكرم من أن يخيب عبدا هذا شأنه ، وهذه المسألة لا تحتاج إلى أكثر من إثبات رب قائم بنفسه ، مباين لخلقه ، بل هذا نفس ترجمتها .