[ ص: 127 ]
أما قوله تعالى : ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) فالمراد أن أولئك . الشياطين يوسوس بعضهم بعضا
واعلم أنه لا يجب أن تكون كل معصية تصدر عن إنسان فإنها تكون بسبب وسوسة شيطان ، وإلا لزم دخول التسلسل أو الدور في هؤلاء الشياطين ، فوجب الاعتراف بانتهاء هذه القبائح والمعاصي إلى قبيح أول ، ومعصية سابقة حصلت لا بوسوسة شيطان آخر .
إذا ثبت هذا الأصل فنقول : إن أولئك الشياطين كما أنهم يلقون الوساوس إلى الإنس والجن فقد يوسوس بعضهم بعضا ، وللناس فيه مذاهب : منهم من قال : الأرواح إما فلكية وإما أرضية ، والأرواح الأرضية منها طيبة طاهرة خيرة آمرة بالطاعة والأفعال الحسنة ، وهم الملائكة الأرضية . ومنها خبيثة قذرة شريرة ، آمرة بالقبائح والمعاصي ، وهم الشياطين ، ثم إن تلك الأرواح الطيبة كما أنها تأمر الناس بالطاعات والخيرات ، فكذلك قد يأمر بعضهم بعضا بالطاعات ، والأرواح الخبيثة كما أنها تأمر الناس بالقبائح والمنكرات ، فكذلك قد يأمر بعضهم بعضا بتلك القبائح والزيادة فيها . وما لم يحصل نوع من أنواع المناسبة بين النفوس البشرية ، وبين تلك الأرواح لم يحصل ذلك الانضمام ، فالنفوس البشرية ، إذا كانت طاهرة نقية عن الصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الطاهرة فتنضم إليها ، وإذا كانت خبيثة موصوفة بالصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الخبيثة فتنضم إليها ، ثم إن صفات الطهارة كثيرة ، وصفات الخبث والنقصان كثيرة ، وبحسب كل نوع منها طوائف من البشر وطوائف من الأرواح الأرضية بحسب تلك المجانسة والمشابهة والمشاكلة ينضم الجنس إلى جنسه ، فإن كان ذلك في أفعال الخير كان الحامل عليها ملكا ، وكان تقوية ذلك الخاطر إلهاما ، وإن كان في باب الشر كان الحامل عليها شيطانا ، وكان تقوية ذلك الخاطر وسوسة .
إذا عرفت هذا الأصل فنقول : إنه تعالى عبر عن هذه الحالة المذكورة بقوله : ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) فيجب علينا تفسير ألفاظ ثلاثة :
الأول : الوحي ، وهو عبارة عن الإيماء والقول السريع .
والثاني : الزخرف وهو الذي يكون باطنه باطلا ، وظاهره مزينا ظاهرا ، يقال : فلان يزخرف كلامه إذا زينه بالباطل والكذب ، وكل شيء حسن مموه فهو مزخرف .
واعلم أن تحقيق الكلام فيه أن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور كونه مشتملا على خير راجح ونفع زائد ، فإنه لا يرغب فيه ، ولذلك سمي الفاعل المختار مختارا لكونه طالبا للخير والنفع ، ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقا للمعتقد ، فهو الحق والصدق والإلهام وإن كان صادرا من الملك ، وإن لم يكن معتقدا مطابقا للمعتقد ، فحينئذ يكون ظاهره مزينا ؛ لأنه في اعتقاده سبب للنفع الزائد والصلاح الراجح ، ويكون باطنه فاسدا باطلا ؛ لأن هذا الاعتقاد غير مطابق للمعتقد فكان مزخرفا ، فهذا تحقيق هذا الكلام .
والثالث : قوله : ( غرورا ) قال الواحدي : ( غرورا ) منصوب على المصدر ، وهذا المصدر محمول على المعنى ؛ لأن معنى إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور ، فكأنه قال : يغرون غرورا ، وتحقيق القول فيه أن المغرور هو الذي يعتقد في الشيء كونه مطابقا للمنفعة والمصلحة مع أنه في نفسه ليس كذلك ، ، فظهر بما ذكرنا أن تأثير هذه الأرواح الخبيثة بعضها في [ ص: 128 ] بعض لا يمكن أن يعبر عنه بعبارة أكمل ولا أقوى دلالة على تمام المقصود من قوله : ( فالغرور إما أن يكون عبارة عن عين هذا الجهل أو عن حالة متولدة عن هذا الجهل يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) .
ثم قال تعالى : ( ولو شاء ربك ما فعلوه ) وأصحابنا يحتجون به على أن ، الكفر والإيمان بإرادة الله تعالى والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء ، وقد سبق تقرير هذه المسألة على الاستقصاء ، فلا فائدة في الإعادة .
ثم قال تعالى : ( فذرهم وما يفترون ) قال : معناه يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به ، قال القاضي : هذا القول يتضمن ابن عباس ، ويقتضي زوال الغم عن قلب الرسول من حيث يتصور ما أعد الله للقوم على كفرهم من أنواع العذاب ، وما أعد له من منازل الثواب بسبب صبره على سفاهتهم ولطفه بهم . التحذير الشديد من الكفر والترغيب الكامل في الإيمان