( ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك )
اللطيفة الثانية : قال تعالى : ( ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك ) .
كأن قائلا قال : اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع . ألا ترى أن بعض النباتات لا تنبت ببعض البلاد كالزعفران وغيره ، فقال تعالى : اختلاف البقاع ليس إلا بإرادة الله ، وإلا فلم صار بعض ، والجدد جمع جدة وهي الخطة أو الطريقة ، فإن قيل : الواو في : ( الجبال فيه مواضع حمر ومواضع بيض ومن الجبال ) ما تقديرها ؟ نقول : هي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون للاستئناف ، كأنه قال تعالى : وأخرجنا بالماء ثمرات مختلفة الألوان ، وفي الأشياء الكائنات من الجبال جدد بيض دالة على القدرة ، رادة على من ينكر الإرادة في اختلاف ألوان الثمار .
ثانيهما : أن تكون للعطف تقديرها : وخلق من الجبال .
قال : أراد ذو جدد . الزمخشري
واللطيفة الثالثة : ذكر الجبال ولم يذكر الأرض ، كما قال في موضع آخر : ( وفي الأرض قطع متجاورات ) ( الرعد : 4 ) مع أن هذا الدليل مثل ذلك ، وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول : ( فأخرجنا به ثمرات ) كان نفس إخراج الثمار دليلا على القدرة ثم زاد عليه بيانا وقال : مختلفا كذلك في الجبال في نفسها دليل للقدرة والإرادة ؛ لأن كون الجبال في بعض نواحي الأرض دون بعضها ، والاختلاف الذي في هيئة الجبل فإن بعضها يكون أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار ، ثم زاده بيانا وقال : جدد بيض أي مع دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها ، كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل واختلاف ألوانها دلائل .
المسألة الرابعة : مختلف ألوانها ، الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها وحمر مختلف ألوانها ، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص ، وقد يكون على لون التراب الأبيض دون بياض الجص ، وكذلك الأحمر ، ولو كان المراد أن البيض والحمر مختلف الألوان لكان مجرد تأكيد والأول أولى ، وعلى هذا فنقول : لم يذكر : مختلف ألوانها بعد البيض والحمر والسود ، بل ذكره بعد البيض والحمر وأخر السود الغرابيب ، لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغرابيب يكون بالغا غاية السواد فلا يكون فيه اختلاف .
المسألة الخامسة : قيل بأن الغربيب مؤكد للأسود ، يقال : أسود غربيب ، والمؤكد لا يجيء إلا متأخرا ، فكيف جاء غرابيب سود ؟ نقول : قال : غرابيب مؤكد لذي لون مقدر في الكلام كأنه تعالى قال : سواد غرابيب ، ثم أعاد السود مرة أخرى وفيه فائدة ، وهي زيادة التأكيد ؛ لأنه تعالى ذكره مضمرا ومظهرا ، ومنهم من قال : هو على التقديم والتأخير ، ثم قال تعالى : ( الزمخشري ومن الناس والدواب والأنعام ) استدلالا آخر على قدرته وإرادته ، وكأن الله تعالى قسم دلائل الخلق في العالم الذي نحن فيه ، وهو عالم المركبات قسمين : حيوان [ ص: 20 ] وغير حيوان ، وغير الحيوان إما نبات وإما معدن ، والنبات أشرف ، وأشار إليه بقوله : ( فأخرجنا به ثمرات ) ثم ذكر المعدن بقوله : ( ومن الجبال ) ثم ذكر الحيوان ، وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال : ( ومن الناس ) ثم ذكر الدواب ، لأن منافعها في حياتها ، والأنعام منفعتها في الأكل منها ، أو لأن الدابة في العرف تطلق على الفرس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره ، وقوله : ( مختلف ألوانه ) فذكر لكون الإنسان من جملة المذكورين ، وكون التذكير أعلى وأولى .