( هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن فبأي آلاء ربكما تكذبان )
[ ص: 107 ] ثم قال تعالى : ( هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون )
والمشهور أن ههنا إضمارا تقديره يقال لهم : هذه جهنم ، وقد تقدم مثله في مواضع . ويحتمل أن يقال : معناه هذه فأقيم المضاف إليه مقام المضاف . ويكون ما تقدم هو المشار إليه ، والأقوى أن يقال : الكلام عند النواصي والأقدام قد تم ، وقوله : ( صفة جهنم هذه جهنم ) لقربها كما يقال هذا زيد قد وصل إذا قرب مكانه ، فكأنه قال جهنم التي يكذب بها المجرمون هذه قريبة غير بعيدة عنهم ، ويلائمه قوله : ( يكذب ) لأن الكلام لو كان بإضمار يقال ، لقال تعالى لهم : هذه جهنم التي كذب بها المجرمون . لأن في هذا الوقت لا يبقى مكذب ، وعلى هذا التقدير يضمر فيه : كان يكذب .
وقوله تعالى : ( يطوفون بينها وبين حميم آن ) هو كقوله تعالى : ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل ) [ الكهف : 29 ] وكقوله تعالى : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) [ السجدة : 20 ] لأنهم يخرجون فيستغيثون فيظهر لهم من بعد شيء مائع هو صديدهم المغلي فيظنونه ماء ، فيردون عليه كما يرد العطشان فيقعون ويشربون منه شرب الهيم ، فيجدونه أشد حرا فيقطع أمعاءهم ، كما أن العطشان إذا وصل إلى ماء مالح لا يبحث عنه ولا يذوقه ، وإنما يشربه عبا فيحرق فؤاده ولا يسكن عطشه . وقوله : ( حميم ) إشارة إلى ما فعل فيه من الإغلاء ، وقوله تعالى : ( آن ) إشارة إلى ما قبله ، وهو كما يقال : قطعته فانقطع فكأنه حمته النار فصار في غاية السخونة ، وآن الماء إذا انتهى في الحر نهاية .
ثم قال تعالى : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وفيه بحث وهو أن هذه الأمور ليست من الآلاء فكيف قال : ( فبأي آلاء ) ؟ نقول : الجواب من وجهين : أحدهما : ما ذكرناه . وثانيهما : أن المراد : ( فبأي آلاء ربكما ) مما أشرنا إليه في أول السورة . ( تكذبان ) فتستحقان هذه الأشياء المذكورة من العذاب ، وكذلك نقول : في قوله : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) هي الجنان . ثم إن تلك الآلاء لا ترى ، وهذا ظاهر لأن الجنان غير مرئية ، وإنما حصل الإيمان بها بالغيب ، فلا يحسن الاستفهام بمعنى الإنكار مثل ما يحسن الاستفهام عن هيئة السماء والأرض والنجم والشجر والشمس والقمر وغيرها مما يدرك ويشاهد ، لكن النار والجنة ذكرتا للترهيب والترغيب كما بينا أن المراد فبأيهما تكذبان فتستحقان العذاب وتحرمان الثواب .