أما قوله تعالى : ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ) ففيه سؤالات :
السؤال الأول : لم قال فمن تعجل ولم يقل فمن عجل ؟
الجواب : قال صاحب "الكشاف" : تعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل ، يقال : تعجل في الأمر واستعجل ، ومتعديين يقال : تعجل الذهاب واستعجله .
السؤال الثاني : قوله : ( ومن تأخر فلا إثم عليه ) فيه إشكال ، وذلك لأنه إذا كان قد استوفى كل ما يلزمه في تمام الحج ، فما معنى قوله : ( فلا إثم عليه ) فإن هذا اللفظ إنما يقال في حق المقصر ولا يقال في حق من أتى بتمام العمل .
والجواب من وجوه :
أحدها : أنه تعالى لما أذن في التعجل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة فإنه يأثم ، ألا ترى أن رضي الله عنه يقول : القصر [ ص: 166 ] عزيمة ، والإتمام غير جائز ، فلما كان هذا الاحتمال قائما ، لا جرم أزال الله تعالى هذه الشبهة وبين أنه لا إثم في الأمرين ، فإن شاء استعجل وجرى على موجب الرخصة ، وإن شاء لم يستعجل ولم يجر على موجب الرخصة ، ولا إثم عليه في الأمرين جميعا . أبا حنيفة
وثانيها : قال بعض المفسرين : إن منهم من كان يتعجل ، ومنهم من كان يتأخر ، ثم كل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله ، كان المتأخر يرى أن التعجل مخالفة لسنة الحج ، وكان المتعجل يرى أن التأخر مخالفة لسنة الحج ، فبين الله تعالى أنه لا عيب في واحد من القسمين ولا إثم ، فإن شاء تعجل وإن شاء لم يتعجل .
وثالثها : أن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاث ، فكأنه قيل : إن منى التي ينبغي المقام بها هي ثلاث ، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخر عن الثالث إلى الرابع فلم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه . أيام
ورابعها : أن هذا الكلام إنما ذكر مبالغة في بيان أن وهذا مثل أن الإنسان إذا تناول الترياق ، فالطبيب يقول له : الآن إن تناولت السم فلا ضرر ، وإن لم تتناول فلا ضرر ، مقصوده من هذا بيان أن الترياق دواء كامل في دفع المضار ، لا بيان أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحدا ، فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحج مكفرا لكل الذنوب ، لا بيان أن التعجل وتركه سيان ، ومما يدل على كون الحج سببا قويا في تكفير الذنوب قوله عليه الصلاة والسلام : " الحج سبب لزوال الذنوب وتكفير الآثام " . من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه
وخامسها : أن كثيرا من العلماء قالوا : الجوار مكروه ، لأنه إذا جاور الحرم والبيت سقط وقعه عن عينه ، وإذا كان غائبا ازداد شوقه إليه ، وإذا كان كذلك احتمل أن يخطر ببال أحدنا على هذا المعنى أن من تعجل في يومين فحاله أفضل ممن لم يتعجل ، فقد اختار المقام بمنى وترك الاستعجال في الطواف فلهذا السبب يبقى في الخاطر تردد في أن المتعجل أفضل أم المتأخر ؟ فبين الله تعالى أنه لا إثم ولا حرج في واحد منهما .
وسادسها : قال الواحدي رحمه الله تعالى : إنما قال : ( ومن تأخر فلا إثم عليه ) لتكون اللفظة الأولى موافقة للثانية ، كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [الشورى : 40] وقوله : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) [البقرة : 194] ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا بعدوان ، فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى ، فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى ؛ لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه .
السؤال الثالث : هل في الآية دلالة على وجوب بمنى بعد الإفاضة من المزدلفة ؟ . الإقامة
الجواب : نعم ، كما كان في قوله : ( فإذا أفضتم من عرفات ) [البقرة : 198] دليل على وقوفهم بها .
واعلم أن الفقهاء قالوا : إنما يجوز التعجل في اليومين لمن تعجل قبل غروب الشمس من اليومين فأما إذا فليس له أن ينفر إلا في اليوم الثالث لأن الشمس إذا غابت فقد ذهب اليوم ، وإنما جعل له التعجل في اليومين لا في الثالث ، هذا مذهب غابت الشمس من اليوم الثاني قبل النفر ، وقول كثير من فقهاء التابعين ، وقال الشافعي رضي الله عنه : يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر ؛ لأنه لم يدخل وقت الرمي بعد . أبو حنيفة