وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
. وأما سخاؤه ، وشجاعته ، وكمال عقله ، وبراعته فإنه مما اشترك الخواص ، والعوام في معرفته ، فلهذا لا أستدل له لشهرته ، وكل هذا مشهور في كتب المناقب من طرق ، ومن ذلك ما جاء في الحديث المشهور : { إن عالم قريش يملأ طباق الأرض علما } وحمله العلماء من المتقدمين ، وغيرهم من غير أصحابنا على رحمه الله واستدلوا له بأن الأئمة من الصحابة رضي الله عنهم الذين هم أعلام الدين ، لم ينقل عن كل واحد منهم إلا مسائل معدودة ، إذ كانت فتاواهم مقصورة على الوقائع ، بل كانوا ينهون عن السؤال عما لم يقع ، وكانت هممهم مصروفة إلى قتال الكفار لإعلاء كلمة الإسلام ، وإلى مجاهدة النفوس ، والعبادة ، فلم يتفرغوا للتصنيف ، وأما من جاء بعدهم ، وصنف من الأئمة فلم يكن فيهم قرشي قبل الشافعي ولم يتصف بهذه الصفة أحد قبله ، ولا بعده . وقد قال الإمام الشافعي أبو زكريا يحيى بن زكريا الساجي في كتابه المشهور في [ ص: 29 ] الخلاف إنما بدأت قبل جميع الفقهاء ، وقدمته عليهم ، وإن كان فيهم أقدم منه اتباعا للسنة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { بالشافعي قريشا ، وتعلموا من قريش } ، وقال الإمام قدموا صاحب أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الاسترابازي الربيع بن سليمان المرادي : في هذا الحديث علامة بينة إذا تأمله الناظر المميز ، علم أن المراد به رجل من علماء هذه الأمة من قريش ، ظهر علمه ، وانتشر في البلاد ، وكتب كما تكتب المصاحف ، ودرسه المشايخ ، والشبان في مجالسهم ، واستظهروا أقاويله ، وأجروها في مجالس الحكام ، والأمراء ، والقراء ، وأهل الآثار ، وغيرهم ، قال : وهذه صفة لا نعلم أنها أحاطت بأحد إلا ، فهو عالم بالشافعي قريش الذي دون العلم ، وشرح الأصول ، والفروع ، ومهد القواعد . قال بعد رواية كلام البيهقي أبي نعيم : وإلى هذا ذهب في تأويل الخبر . ومن ذلك مصنفات أحمد بن حنبل في الأصول ، والفروع التي لم يسبق إليها كثرة ، وحسنا ، فإن مصنفاته كثيرة مشهورة ، كالأم في نحو عشرين مجلدا ، وهو مشهور ، وجامع الشافعي الكبير ، وجامعه الصغير ، ومختصريه الكبير ، والصغير ، ومختصر المزني ، البويطي والربيع . وكتاب حرملة ، وكتاب الحجة ، وهو القديم ، والرسالة القديمة ، ، والرسالة الجديدة ، والأمالي ، والإملاء ، وغير ذلك مما هو معلوم من كتبه ، وقد جمعها في المناقب . قال القاضي الإمام البيهقي أبو محمد الحسين بن محمد المروزي في خطبة تعليقه : قيل : إن رحمه الله صنف مائة ، وثلاثة عشر كتابا في التفسير ، والفقه ، والأدب ، وغير ذلك ، وأما حسنها فأمر يدرك بمطالعتها فلا يتمارى في حسنها موافق ، ولا مخالف ، وأما كتب أصحابه التي هي شروح لنصوصه ، ومخرجة على أصوله ، مفهومة من قواعده فلا يحصيها مخلوق مع عظم فوائدها ، وكثرة عوائدها ، وكبر حجمها ، وحسن ترتيبها ، ونظمها ، كتعليق الشيخ الشافعي أبي حامد الإسفراييني ، وصاحبيه القاضي أبي الطيب ، وصاحب الحاوي ، ، ونهاية المطلب لإمام الحرمين ، وغيرها مما هو مشهور معروف ، وهذا من المشهور الذي هو أظهر من أن يظهر ، وأشهر من أن يشهر ، وكل هذا مصرح بغزارة علمه ، وجزالة كلامه ، وصحة نيته في علمه ، وقد نقل عنه مستفيضا من صحة نيته في علمه نقول كثيرة مشهورة ، وكفى بالاستقراء في ذلك دليلا قاطعا ، وبرهانا صادعا . [ ص: 30 ] قال الساجي في أول كتابه في الخلاف : سمعت الربيع يقول سمعت يقول : " وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلي حرف منه " فهذا إسناد لا يتمارى في صحته فكتاب الشافعي الساجي متواتر عنه ، وسمعه من إمام عن إمام ، وقال رحمه الله : ما ناظرت أحدا قط على الغلبة ، ووددت إذا ناظرت أحدا أن يظهر الله الحق على يديه " ، ونظائر هذا كثيرة مشهورة عنه ، ومن ذلك مبالغته في الشفقة على المتعلمين ، وغيرهم ، ونصيحته لله تعالى ، وكتابه ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والمسلمين ، وذلك هو الدين كما صح عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وهذا الذي ذكرته ، وإن كان كله معلوما مشهورا فلا بأس بالإشارة إليه ليعرفه من لم يقف عليه ، فإن هذا المجموع ليس مخصوصا ببيان الخفيات ، وحل المشكلات . الشافعي