و(من) شرطية، وإفراد ضمير (يطع) مراعاة للفظ، والجمع في قوله سبحانه: (فأولئك) مراعاة للمعنى، أي: فالمطيعون الذين علت درجتهم، وبعدت منزلتهم شرفا وفضلا.
مع الذين أنعم الله عليهم بما تقصر العبارة عن تفصيله وبيانه من النبيين بيان للمنعم عليهم، فهو حال إما من (الذين) أي مقارنيهم حال كونهم (من النبيين) وإما من ضميره، والتعرض لمعية الأنبياء دون نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم – خاصة، مع أن الكلام في بيان حكم طاعته عليه الصلاة والسلام لجريان ذكرهم في سبب النزول، مع الإشارة إلى أن طاعته متضمنة لطاعتهم.
أخرج الطبراني، وأبو نعيم، والضياء المقدسي وحسنه قال: جبريل بهذه الآية ومن يطع الله إلخ، وروي مثله عن «جاء رجل إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك» فلم يرد عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - شيئا حتى نزل ابن عباس.
وقال الكلبي: «إن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان شديد الحب له عليه الصلاة والسلام، قليل الصبر عنه، وقد نحل جسمه، وتغير لونه خوف عدم رؤيته - صلى الله تعالى عليه وسلم - بعد الموت، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فأنزل الله تعالى هذه الآية».
وعن مسروق: وبدأ بذكر النبيين لعلو درجتهم وارتفاعهم على من عداهم. «إن أصحاب رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قالوا: ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا، فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا، فنزلت»
وقد نقل عن مولانا الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال: فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق» ثم عطف عليهم على سبيل التدلي قوله سبحانه: الشعراني
والصديقين والشهداء والصالحين فالمنازل أربعة، بعضها دون بعض:
الأول: منازل الأنبياء، وهم الذين تمدهم قوة [ ص: 76 ] إلهية، وتصحبهم نفس في أعلى مراتب القدسية، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من قريب، ولذلك قال تعالى في صفة نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم -: أفتمارونه على ما يرى .
والثاني: منازل الصديقين، وهم الذين يتأخرون على الأنبياء - عليهم السلام - في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من بعيد، وإياه عنى - كرم الله وجهه - حيث قيل له: هل رأيت الله تعالى فقال: ما كنت لأعبد ربا لم أره، ثم قال: لم تره العيون بشواهد العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. علي
والثالث: منازل الشهداء، وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين، ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب، كحال من قال: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإياه قصد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بقوله: «اعبد الله كأنك تراه».
والرابع: منازل الصالحين، وهم الذين يعلمون الشيء بالتقليد الجازم، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة، وإياه قصد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بقوله: قاله «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ونقله الراغب، الطيبي وغيره.
ونقل بعض تلامذة مولانا الشيخ خالد النقشبندي قدس سره أنه قرر يوما أن مراتب الكمل أربعة:
نبوة وقطب مدارها نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - ثم صديقية وقطب مداراها - رضي الله تعالى عنه - ثم شهادة وقطب مدارها أبو بكر الصديق عمر الفاروق - رضي الله تعالى عنه - ثم ولاية وقطب مدارها - كرم الله تعالى وجهه - وأن الصلاح في الآية إشارة إلى الولاية، فسأله بعض الحاضرين عن علي رضي الله تعالى عنه - في أي مرتبة هو من المراتب الثلاثة بعد النبوة؟ فقال: إنه - رضي الله تعالى عنه - قد نال حظا من رتبة الشهادة، وحظا من رتبة الولاية، وأن معنى كونه عثمان- ذا النورين هو ذلك عند العارفين، انتهى.
وأنا - مستعينا بالله تعالى ومستمدا من القوم قدس الله تعالى أسرارهم - أقول: إن الولاية هي المحيطة العامة، والفلك الدائر، والدائرة الكبرى، وأن الولي من كان على بينة من ربه في حاله، فعرف ما له بإخبار الحق إياه على الوجه الذي يقع به التصديق عنده، ويصدق على أصناف كثيرة، إلا أن المذكور منها في هذه الآية أربعة:
الصنف الأول: الأنبياء، والمراد بهم هنا الرسل، أهل الشرع سواء بعثوا أو لم يبعثوا، أعنى بطريق الوجوب عليهم، ولا بحث لأهل الله تعالى عن مقاماتهم وأحوالهم إذ لا ذوق لهم فيها، وكلهم معترفون بذلك، غير أنهم يقولون: إن النبوة عامة وخاصة، والتي لا ذوق لهم فيها هي الخاصة، أعني نبوة التشريع، وهى مقام خاص في الولاية.
وأما النبوة العامة فهي مستمرة سارية في أكابر الرجال، غير منقطعة دنيا وأخرى، لكن باب الإطلاق قد انسد، وعلى هذا يخرج ما رواه البدر التماسكي البغدادي، عن الشيخ بشير، عن القطب عبد القادر الجيلي - قدس سره - أنه قال: معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا مالم تؤتوا، فإن معنى قوله: أوتيتم اللقب أنه حجر علينا إطلاق لفظ النبي، وإن كانت النبوة العامة أبدية، وقوله: وأوتينا ما لم تؤتوا على حد قول الخضر لموسى - عليه السلام - وهو أفضل منه: يا موسى أنا على علم علمنيه الله تعالى لا تعلمه أنت، وهذا وجه آخر غير ما أسلفناه من قبل توجيه هذا الكلام.
والصنف الثاني: الصديقون، وهم المؤمنون بالله تعالى ورسله عن قول المخبر لا عن دليل سوى النور الإيماني الذي أعد في قلوبهم قبل وجود المصدق به، المانع لها من تردد أو شك يدخلها في قول المخبر الرسول، ومتعلقه في الحقيقة الإيمان بالرسول، ويكون الإيمان بالله تعالى على جهة القربة لا على إثباته؛ إذ كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق جل وعلا ضرورة أو نظرا، لكن ثبت ما كونه قربة، وليس بين النبوة والصديقية - كما قال حجة الإسلام وغيره – مقام، ومن تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة، وهي باب مغلق.
وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره مقاما بينهما سماه مقام القربة، وهو السر الذي وقر في قلب - رضي الله تعالى عنه - المشار إليه في الحديث «فليس بين النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أبي بكر وأبي بكر- رضي الله تعالى عنه - رجل أصلا» لا أنه ليس بين الصديقية والنبوة [ ص: 77 ] مقام، ولها أجزاء على عدد شعب الإيمان، وفسرها بعضهم بأنه نور أخضر بين نورين، يحصل به شهود عين ما جاء به المخبر من خلف حجاب الغيب بنور الكرم، وبين ذلك بما يطول.
والصنف الثالث: وهم من أهل الحضور مع الله تعالى على بساط العلم به، فقد قال سبحانه: الشهداء، تولاهم الله تعالى بالشهادة، وجعلهم من المقربين، شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم فجمعهم مع الملائكة في بساط الشهادة، فهم موحدون عن حضور إلهي وعناية أزلية، فإن بعث الله تعالى رسولا وآمنوا به فهم المؤمنون العلماء، ولهم الأجر التام يوم القيامة، وإلا فليس هم الشهداء المنعم عليهم، وإيمانهم بعد العلم بما قاله الله سبحانه: إن ذلك قربة إليه - من حيث قاله الله سبحانه أو قاله الرسول الذي جاء من عنده - فقدم الصديق على الشهيد، وجعل بإزاء النبي؛ فإنه واسطة بينهما لاتصال نور الإيمان بنور الرسالة، والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث هو شاهد لله تعالى بتوحيده لا من حيث هو رسول، فلا يصح أن يكون بعده مع المساوقة؛ لئلا تبطل، ولا أن يكون معه لكونه رسولا، والشاهد ليس به، فلا بد أن يتأخر، فلم يبق إلا أن يكون في الرتبة التي تلي الصديقية، فإن الصديق أتم نورا منه في الصديقية لأنه صديق من وجهين: وجه التوحيد ووجه القربة، والشهيد من وجه القربة خاصة؛ لأن توحيده عن علم لا عن إيمان، فنزل عن الصديق في مرتبة الإيمان، وهو فوقه في مرتبة العلم، فهو المتقدم في مرتبة العلم، المتأخر برتبة الإيمان والتصديق، فإنه لا يصح من العالم أن يكون صديقا، وقد تقدم العلم مرتبة الخبر، فهو يعلم أنه صادق في توحيد الله تعالى إذا بلغ رسالة الله تعالى، والصديق لم يعلم ذلك إلا بنور الإيمان المعد في قلبه، فعندما جاء الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر.
والصنف الرابع: الصالحون، تولاهم الله بالصلاح، وهم الذين لا يدخل في علمهم بالله تعالى ولا إيمانهم به وبما جاء من عنده سبحانه خلل، فإذا دخله بطل كونه صالحا، وكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح، وفي شهادته فهو صالح، وفي توبته فهو صالح، ولكل أحد أن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه؛ لأن الأمر اختصاص إلهي وليس بذاتي، فيجوز دخول الخلل فيه ويجوز رفعه، فصح أن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين، أي الذين يدخل صلاحهم خلل في زمان ما.
وقد ذكر أنه ما من نبي إلا وذكر أنه صالح، أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيا، ومن هنا قيل: إن مرتبة الصلاح خصوص في النبوة، وقد تحصل لمن ليس بنبي، ولا صديق، ولا شهيد.
هذا ما وقفت عليه من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، ولم أظفر بالتفصيل الذي ذكره مولانا الشيخ قدس سره، فتدبر.
وقد ذكر أصحابنا الرسميون أن الصديق صيغة مبالغة كالسكير، بمعنى المتقدم في التصديق، المبالغ في الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال، ويطلق على كل من أفاضل أصحاب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وأماثل خواصهم كأبي بكر رضي الله تعالى عنه.
وأن الشهداء جمع شهيد، والمراد الذين بذلوا أرواحهم في طاعة الله تعالى، وإعلاء كلمته، وهم المقتولون بسيف الكفار من المسلمين، وقيل المراد بهم ها هنا ما هو أعم من ذلك، فعن - رضي الله تعالى عنه - قال: أبي هريرة وعد بعضهم الشهداء أكثر من ذلك بكثير، وقيل: الشهيد هو الذي يشهد لدين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى [ ص: 78 ] بالسيف والسنان. «قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله تعالى، فقال: إن شهداء أمتي إذا لقليل، من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات مبطونا فهو شهيد»
وزعم أنه يبعد أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى: النيسابوري وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس وليس بشيء كما لا يخفى.
وأن المراد بالصالحين الصارفين أعمارهم في طاعة الله تعالى، وأموالهم في مرضاته سبحانه، ويقال: الصالح هو الذي صلحت حاله، واستقامت طريقته.
والمصلح هو الفاعل لما فيه الصلاح، قال الطبرسي: ولذا يجوز أن يقال: مصلح في حق الله تعالى دون صالح، وليس المراد بالمعية اتحاد الدرجة ومطلق الاشتراك في دخول الجنة، بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد، وإن بعدت المسافة بينهما.
وذكر غير واحد أنه لا مانع من أن يرفع الأدنى إلى منزلة الأعلى متى شاء تكرمة له، ثم يعود، ولا يرى أنه أرغد منه عيشا، ولا أكمل لذة؛ لئلا يكون حسرة في قلبه، وكذا لا مانع من أن ينحدر الأعلى إلى منزلة الأدنى، ثم يعود، من غير أن يرى ذلك نقصا في ملكه أو حطا من قدره.
وقد ثبت في غير ما حديث أن وادعى بعضهم أن لا تزاور مع رؤية كل واحد الآخر؛ وذلك لأن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع، فينعكس بعضها على بعض كالمرايا المجلوة المتقابلة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: أهل الجنة يتزاورون، إخوانا على سرر متقابلين وزعم أنه التحقيق وهو بعيد عنه، وأبعد من ذلك بمراحل ما قيل: يحتمل أن يكون المراد أن معنى كون المطيع مع هؤلاء أنه معهم في سلوك طريق الآخرة، فيكون مأمونا من قطاع الطريق، محفوظ الطاعة عن النهب.
وحسن أولئك رفيقا أي صاحبا، وهو مشتق من الرفق، وهو لين الجانب، واللطافة في المعاشرة قولا وفعلا، والإشارة يحتمل أن تكون إلى النبيين ومن بعدهم، وما فيها من معنى البعد لما مر مرارا (ورفيقا) حينئذ إما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفوا بالحسن من جهة كونهم رفقاء للمطيعين، أو حال كونهم رفقاء لهم، ولم يجمع؛ لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره، أو اكتفاء بالواحد عن الجمع في باب التمييز لفهم المعنى، وحسنه وقوعه في الفاصلة، أو لأنه بتأويل حسن كل واحد منهم، أو لأنه قصد بيان الجنس مع قطع النظر عن الأنواع، ويحتمل أن تكون إلى (من يطع) والجمع على المعنى، فـ(رفيقا) حينئذ تمييز على معنى أنهم وصفوا بحسن الرفيق من الفرق الأربع لا بنفس الحسن، فلا يجوز دخول (من) عليه كما يجوز في الوجه الأول.
والجملة على الاحتمالين تذييل مقرر لما قبله، مؤكد للترغيب والتشويق، وفي الكشاف: فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا، ولاستقلاله بمعنى التعجيب قرئ (وحسن) بسكون السين، يقول المتعجب: حسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين، انتهى.
وفي الصحاح يقال: حسن الشيء، وإن شئت خففت الضمة فقلت: حسن الشيء، ويجوز أن تنقل الضمة إلى الحاء؛ لأنه خبر، وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح أو الذم؛ لأنه يشبه في جواز النقل بنعم وبئس، وذلك أن الأصل فيهما (نعم وبئس) فسكن ثانيهما، ونقلت حركته إلى ما قبله، وكذلك كل ما كان في معناهما، قال الشاعر:
لم يمنع الناس مني ما أردت وما أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا
أراد حسن ذا أدبا، فخفف ونقل، وأراد أنه لما نقل إلى الإنشاء حسن أن يغير تنبيها على مكان النقل.وفي الارتشاف: إن فعل المحول ذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فقط، وإجراء [ ص: 79 ] أحكامه عليه، وذهب الأخفش إلى إلحاقه بباب التعجب، وحكى والمبرد الاستعمالين عن الأخفش العرب، ويجوز فيه ضم العين وتسكينها، ونقل حركتها إلى الفاء، وظاهره تغاير المذهبين.
وفي التسهيل أنه من باب نعم وبئس، وفيه معنى التعجب، وهو يقتضي أن لا تغاير بينهما، وإليه يميل كلام الشيخين، فافهم.
والحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب، إما عقلا أو هوى أو حسا، وأكثر ما يقال في متعارف العامة في المستحسن بالبصر، وقد جاء في القرآن له وللمستحسن من جهة البصيرة.