قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون
القائل هنا هو موسى عليه السلام ، والضمير في قوله: فعلتها لقتله القبطي، وقوله: "إذا" صلة في الكلام، وكأنها بمعنى: حينئذ، وقوله: وأنا من الضالين قال : معناه: من الجاهلين بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه، وقال ابن زيد : معناه: من الناسين لذلك، ونزع لقوله تعالى: أبو عبيدة أن تضل إحداهما ، وفي قراءة ، ابن مسعود رضي الله عنهم: "وأنا من الجاهلين"، ويشبه أن تكون هذه القراءة على جهة التفسير. وابن عباس
وقوله: "حكما" يريد النبوة وحكمتها، وقرأ : "حكما" بضم الحاء والكاف، وقوله: عيسى وجعلني من المرسلين درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول.
[ ص: 476 ] ثم حاجه عليه السلام في منه عليه بالتربية وترك القتل بقوله: وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ، واختلف الناس في تأويل هذا الكلام، فقال : هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة، كأنه قال: أو يصح لك أن تعد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي: ليست نعمة; لأن الواجب كان ألا تقتلني وألا تقتلهم، وألا تستعبدني ولا تستعبدهم بالقتل ولا بالخدمة وغير ذلك. وقرأ قتادة : "وتلك نعمة ما لك أن تمنها"، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وقال الضحاك : قيل: الواو، ألف الاستفهام محذوفة، والمعنى: أو تلك؟ وهذا لا يجوز إلا إذا عادلتها "أم" كما قال: الأخفش
................ تروح من الحي أم تبتكر؟
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وفي هذا القول تكلف، وقول موسى عليه السلام تقرير بغير ألف، وهو صحيح كما قال ، والله المعين. قتادة
[ ص: 477 ] وقال ، السدي : هذا الكلام من والطبري موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه يقول: "نعم، وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني، ولكن ذلك لا يدفع رسالتي".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ولكل وجه ناحية من الاحتجاج، فالأول ماض في طريق المخالفة لفرعون ونقض كلامه، والثاني مبد من موسى عليه السلام أنه منتصف من نفسه معترف بالحق، ومتى حصل أحد المتجادلين في هذه الرتبة، وكان حجيجه في ضدها غلب المتصف بذلك، وكان قوله أوقع في النفوس.
ولما لم يجد فرعون لعنه الله- هذا الطريق من تقريره على التنزيه وغير ذلك، رجع إلى معارضة موسى عليه السلام في قوله: وما رب العالمين فاستفهمه استفهاما عن مجهول من الأشياء، قال : كما يستفهم عن الأجناس، فلذلك استفهم بـ "ما"، وقد ورد له استفهام بـ "من" في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن، فأجابه مكي موسى عليه السلام بالصفات التي يتبين السامع منها أنه لا مشاركة لفرعون فيها، وأنها ربوبية السماوات والأرض، وهذه المجادلة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد، فقال فرعون عند ذلك: "ألا تستمعون" على معنى الإغراء أو التعجب من شنعة المقالة; إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم، والفراعنة قبله كذلك، وهذه ضلالة منها في مصر وديارها إلى اليوم بقية، فزاد موسى عليه السلام في البيان بقوله: ربكم ورب آبائكم الأولين ، فقال فرعون حينئذ -على جهة الاستخفاف-: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون . وقرأ جمهور الناس: "أرسل" على بناء الفعل للفاعل، فزاد موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون ، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها، وهي ربوبية المشرق والمغرب، ولم يكن لفرعون إلا [ ص: 478 ] ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية ، وفي قراءة وأصحابه: "رب المشارق والمغارب وما بينهما". ابن مسعود