قوله عز وجل:
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين
[ ص: 544 ] الضمير في "قالوا" لقريش، وذلك أنهم استبعدوا أولا أن يرسل الله تعالى بشرا، فلما تقرر أمر موسى، وعيسى ، وإبراهيم عليهم السلام، ولم يكن لهم في ذلك مدفع رجعوا يناقضون فيما يخض محمدا صلى الله عليه وسلم بعينه، فقالوا: لم كان محمد عليه الصلاة والسلام- ولم يكن نزول الشرع على رجل من إحدى الفرقتين عظيم؟، وقدر قولهم: على رجل من رجلين من القريتين، والقريتان: المبرد مكة والطائف، ورجل مكة الذي أشاروا إليه، قال رضى الله عنهما : هو ابن عباس الوليد بن المغيرة المخزومي، وقال : هو مجاهد عتبة بن ربيعة، وقال : بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه، ورجل قتادة الطائف، قال : هو قتادة عروة بن مسعود، وقال رضى الله عنهما: ابن عباس حبيب بن عبد بن عمير، وقال : مجاهد كنانة بن عبد ياليل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإنما قصدوا إلى من عظم ذكره بالسن والقدم، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان حينئذ أعظم من هؤلاء لكن لما عظم أولئك قبل مدة النبي صلى الله عليه وسلم وفي صباه استمر ذلك لهم.
ثم وقف تعالى -على جهة التوبيخ لهم- بقوله: أهم يقسمون رحمت ربك ، المعنى: على اختيارهم وإرادتهم تنقسم الفضائل والمكانة عند الله تعالى؟ و"الرحمة": اسم يعم جميع هذا، ثم أخبر تعالى خبرا جازما بأنه قاسم المعايش والدرجات في الدنيا ليسخر بعض الناس بعضا، المعنى: فإذا كان اهتمامنا بهم أن نقسم هذا الحقير الفاني، فالأحرى أن نقسم الأهم الخطير، وفي قوله تعالى: نحن قسمنا بينهم معيشتهم تزهيد في السعايات، وعون على التوكل على الله تعالى، ولله در القائل:
لما أتى "نحن قسمنا بينهم" زال المرا
وقرأ الجمهور: "معيشتهم"، وقرأ ، ابن مسعود : "معايشهم"، وقرأ جمهور الناس: "سخريا" بضم السين، وقرأ والأعمش ، أبو رجاء وابن محيصن: "سخريا" بكسر السين، وهما لغتان في معنى التسخير، ولا مدخل لمعنى الهزء في هذه الآية.
وقوله تعالى: ورحمت ربك خير مما يجمعون قال ، قتادة : يعني الجنة. [ ص: 545 ] قال والسدي القاضي أبو محمد رحمه الله:
لا شك أن الجنة هي الغاية، ورحمة الله تبارك وتعالى في الدنيا بالهداية والإيمان خير من كل مال، وهذا اللفظ تحقير للدنيا، ثم استمر القول في تحقيرها بقوله تعالى: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة الآية، وذلك أن معنى الآية: أن الله تعالى أبقى على عبيده وأنعم بمراعاة بقاء الخير والإيمان وشاء حفظه على طائفة منهم بقية الدهر، ولولا كراهية أن يكون الناس كفارا كلهم وأهل حب في الدنيا وتجرد لها لوسع الله تعالى على الكفار غاية التوسعة ومكنهم من الدنيا، إذ حقارتها عنده تقتضي ذلك، لأنها لا قدر لها ولا وزن لفنائها وذهاب رسومها، فقوله تعالى: أمة واحدة معناه: في الكفر، قاله ، ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: والسدي ثم يتركب معنى الآية على معنى هذا الحديث، واللام في قوله تعالى: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء"، لمن يكفر لام الملك، واللام في قوله تعالى: "لبيوتهم" لام تخصيص، كما تقول: هذا الكساء لزيد لدابته، أي: هو لدابته حلس ولزيد ملك. قال المهدوي: ودلت هذه الآية على أن السقف لرب البيت الأسفل; إذ هو منسوب إلى البيوت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا تفقه واهن.
وقرأ جمهور القراء: "سقفا" بضم السين والقاف، وقرأ : "سقفا" بضم السين وسكون القاف، وهذان جمعان، وقرأ مجاهد ، ابن كثير : "سقفا" بفتح السين وسكون القاف على الإفراد، و"المعارج": الأدراج التي يطلع عليها، قاله وأبو جعفر ، ابن عباس ، والناس، وقرأ وقتادة : "ومعاريج" بزيادة ياء، و "يظهرون": معناه: يعلون، ومنه حديث طلحة رضي الله تعالى عنها: عائشة [ ص: 546 ] و"السرر": جمع سرير، واختلف الناس في "الزخرف"، فقال "والشمس في حجرتها قبل أن تظهر"، ، ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : الزخرف: الذهب نفسه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والسدي "إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
الحسن أحمر، والشهوات تتبعه، وقال : الزخرف: أثاث البيت وما يتخذ له من الستور والنمارق ونحوه، وقالت فرقة: الزخرف: التزاويق والنقش ونحوه من التزيين، وشاهد هذا القول: ابن زيد حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت . وقرأ جمهور القراء: "وإن كل ذلك لما" بتخفيف الميم من "لما" فـ "إن" مخففة من الثقيلة، واللام في "لما" داخلة لتفصل بين النفي والإيجاب، وقرأ ، عاصم ، وحمزة وهشام -بخلاف عنه- ، والحسن ، وطلحة ، والأعمش : "لما" بتشديد الميم من "لما"، فإن "إن" نافية بمعنى "ما"، و"لما": بمعنى: إلا، وقد حكى وعيسى : "نشدتك الله لما فعلت"، وحمله على "إلا". وفي مصحف سيبويه : "وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا"، وقرأ أبي بن كعب : "لما" بكسر اللام وتخفيف الميم، فـ "ما" بمعنى الذي، والعائد عليها محذوف، والتقدير: وإن كل ذلك للذي هو متاع الحياة الدنيا، وفي قوله تعالى: أبو رجاء والآخرة عند ربك للمتقين وعد كريم وتحريض على التقوى، إذ في الآخرة هو التباين في المنازل.