وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا
هذه آية تأسف عليهم، وتنبيه على فساد حالهم; لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب، وإنما امتنعوا هم مع اعتقادهم أنهم مصيبون، لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا، فكأن حالهم يقتضي التأسف عليهم، و"الناس" يراد به كفار عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تولوا دفع الشريعة وتكذيبها و"الهدى" هو شرع الله تعالى، والبيان الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، و "الاستغفار" هنا طلب المغفرة على فارط الذنب كفرا وغيره. و سنة الأولين هي عذاب الأمم المذكورة من الغرق والصيحة والظلة والريح وغير ذلك.
قوله تعالى: أو يأتيهم العذاب قبلا ، أي: مقابلة عيانا، والمعنى عذابا غير المعهود، فتظهر فائدة التقسيم، وكذلك صدق هذا الوعيد في بدر . وقال : مجاهد
"قبلا" معناه: فجأة. وقرأ ، ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو، ، وابن عامر ، ومجاهد : "قبلا" بكسر القاف وفتح الباء، وقرأ وعيسى بن عمر ، عاصم ، والكسائي ، [ ص: 625 ] وحمزة ، والحسن : "قبلا" بضم القاف والباء، ويحتمل معنيين: أحدهما أن يكون بمعنى: "قبل"; لأن والأعرج أبا عيسى حكاهما بمعنى واحد في المقابلة، والآخر أن يكون جمع "قبيل"، أي: يجيئهم العذاب أنواعا وألوانا. وقرأ أبو رجاء، أيضا: "قبلا" بضم القاف وسكون الباء. والحسن
وقوله تعالى: وما نرسل المرسلين الآية. كأنه لما تفجع عليهم وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إلى الخسار، قال: وليس الأمر كما ظنوا، والرسل لم نبعثهم ليجادلوا، ولا لتتمنى عليهم الاقتراحات، وإنما بعثناهم مبشرين من آمن بالجنة، ومنذرين من كفر بالنار. و "يدحضوا" معناه: يزهقوا، والدحض: الطين الذي يزلق فيه، ومنه قول الشاعر:
رديت ونجى اليشكري جذاره ... وحاد كما حاد البعير عن الدحض
وفي قوله تعالى: واتخذوا إلى آخر الآية توعد. و "الآيات" تجمع آيات القرآن والعلامات التي تظهر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: وما أنذروا هزوا يريد: من عذاب الآخرة، والتقدير: وما أنذروه، فحذف الضمير. و "الهزء": السخر والاستخفاف، كقولهم: "أساطير الأولين"، وقولهم: "لو نشاء لقلنا مثل هذا".
وقوله تعالى: ومن أظلم استفهام بمعنى التقرير، وهذا من أفصح التقرير، أن يوقف المرء على ما لا جواب له فيه إلا الذي يريد خصمه، فالمعنى: لا أحد أظلم ممن [ ص: 626 ] هذه صفته، أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير، وينسى ويطرح كبائره التي أسلفها، هذه غاية الإهمال. ونسب السيئات إلى اليدين من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية، فجعلت كذلك في المعاني استعارة.
ثم أخبر الله تعالى عنهم وعن فعله بهم جزاء على اعتراضهم وتكسبهم القبيح بأن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة، وهي جمع كنان، وهو الغلاف الساتر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
واختلف الناس في هذا وما أشبهه من الختم والطبع ونحوه، هل هو حقيقة أو مجاز؟ والحقيقة في هذا غير مستحيلة، والتجوز أيضا فصيح، أي: لما كانت هذه المعاني مانعة في الأجسام وحائلة استعيرت للقلوب التي قد أنساها الله تعالى وأقصاها عن الخير. وأما "الوقر في الآذان" فاستعارة بينة لأن الكفرة يسمعون الدعاء إلى الشرع سماعا تاما، ولكن لما كانوا لا يؤثر ذلك فيهم إلا كما يؤثر في الذي به وقر فلا يسمع، شبهوا به، وكذلك العمى والصمم والبكم كلها استعارات، وإنما الخلاف في أوصاف القلب، هل هي حقيقة أو مجاز؟ و "الوقر": الثقل في السمع.
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم وإن دعوا إلى الهدى فإنهم لا يهتدون أبدا، وهذا يخرج على أحد تأويلين: أحدهما أن يكون هذا اللفظ العام يراد به الخاص ممن حتم الله عليه أنه لا يؤمن ولا يهتدي أبدا، ويخرج عن العموم كل من قضى الله بهداه في ثاني حال، والآخر أن يريد: وإن تدعهم إلى الهدى جميعا فلن يؤمنوا جميعا أبدا، أي: أنهم ربما آمن منهم الأفراد، ويضطرنا إلى أحد هذين التأويلين أنا نجد المخبر عنهم بهذا الخبر قد آمن منهم واهتدى كثير.