قال : يحتمل قوله تعالى : أبو بكر محصنين غير مسافحين وجهين :
أحدهما : الحكم بكونهم محصنين بعقد النكاح والإخبار عن حالهم إذا نكحوا .
[ ص: 93 ] والثاني : أن يكون وأحل لكم ما وراء ذلكم ؛ فإن كان المراد الوجه الأول فإطلاق الإباحة عموم يصح اعتباره فيما انتظمه إلا ما قام دليله ، وإن أراد الوجه الثاني كان إطلاق الإباحة مجملا لأنه معقود بشريطة حصول الإحصان به ، والإحصان لفظ مجمل مفتقر إلى البيان ، فلا يصح حينئذ الاحتجاج به ، والأولى حمله على الإخبار عن حصول الإحصان بالتزويج لإمكان استعماله ، وذلك لأنه متى ورد لفظ يحتمل أن يكون عموما يمكننا استعمال ظاهره ويحتمل أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان ، فالواجب حمله على معنى العموم دون الإجمال لما فيه من استعمال حكمه عند وروده ، فعلينا المصير إليه ؛ وغير جائز حمله على وجه يسقط عنا استعماله إلا بورود بيان من غيره ، وفي نسق التلاوة وفحوى الآية ما يوجب أن يكون ذكر الإحصان إخبارا عن كونه محصنا بالنكاح وذلك لأنه قال : الإحصان شرطا في الإباحة المذكورة في قوله تعالى : محصنين غير مسافحين والسفاح هو الزنا ، فأخبر أن الإحصان المذكور هو ضد الزنا وهو العفة ، وإذا كان في هذا الموضع العفاف فقد حصل على وجه لا يكون مجملا ؛ لأن تقديره : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم عفة غير زنا ؛ وهذا لفظ ظاهر المعنى بين المراد ، فيوجب ذلك معنيين : المراد بالإحصان
أحدهما : إطلاق لفظ الإباحة وكونه عموما ، والآخر : الإخبار بأنهم إذا فعلوا ذلك كانوا محصنين غير مسافحين ، والإحصان لفظ مشترك متى أطلق لم يكن عموما كسائر الألفاظ المشتركة ؛ وذلك لأنه اسم يقع على معان مختلفة وأصله المنع ومنه سمي الحصن لمنعه من صار فيه من أعدائه ، ومنه الدرع الحصينة أي المنيعة ، والحصان بالكسر الفحل من الأفراس لمنعه راكبه من الهلاك ، والحصان بالنصب العفيفة من النساء لمنعها فرجها من الفساد ؛ قال حسان في رضي الله عنهما : عائشة
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
وقال الله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات يعني العفائف ، والإحصان في الشرع اسم يقع على معان مختلفة غير ما كان الاسم لها في اللغة ، فمنها الإسلام ، قال الله تعالى : فإذا أحصن روي : فإذا أسلمن ؛ ويقع على التزويج ؛ لأنه قد روي في التفسير أيضا أن معناه : فإذا تزوجن .وقال تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ومعناه : ذوات الأزواج . ويقع على العفة في قوله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات ويقع [ ص: 94 ] على الوطء بنكاح صحيح في إحصان الرجم .
والإحصان في الشرع يتعلق به حكمان : أحدهما : في في قوله تعالى : إيجاب الحد على قاذفه والذين يرمون المحصنات فهذا يعتبر فيه العفاف والحرية والإسلام والعقل والبلوغ ، فما لم يكن على هذه الصفة لم يجب على قاذفه الحد لأنه لا حد على ؛ فهذه الوجوه من الإحصان معتبرة في إيجاب الحد على القاذف والحكم الآخر هو الإحصان الذي يتعلق به إيجاب الرجم إذا زنى ، وهذا الإحصان يشتمل على الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والنكاح الصحيح مع الدخول بها وهما على هذه الصفة ، فإن عدم شيء من هذه الخلال لم يكن عليه الرجم إذا زنى . قاذف المجنون والصبي الزاني والكافر والعبد
والسفاح هو الزنا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا من نكاح ولست من سفاح . وقال مجاهد في قوله تعالى : والسدي غير مسافحين قالا : " غير زانين " . ويقال إن أصله من سفح الماء وهو صبه ، ويقال : سفح دمعه وسفح دم فلان ، وسفح الجبل : أسفله ، لأنه موضع مصب الماء ، وسافح الرجل إذا زنى لأنه صب ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب ووجوب العدة وسائر أحكام النكاح ، فسمي مسافحا لأنه لم يكن له من فعله هذا غير صب الماء ،
وقد أفاد ذلك نفي نسب الولد المخلوق من مائه منه وأنه لا يلحق به ولا تجب على المرأة العدة منه ولا تصير فراشا ولا يجب عليه مهر ولا يتعلق بذلك الوطء شيء من أحكام النكاح ؛ هذه المعاني كلها في مضمون هذا اللفظ ، والله أعلم بالصواب .