وقوله تعالى : وامسحوا برءوسكم قال : اختلف الفقهاء في أبو بكر ، فروي عن أصحابنا فيه روايتان : إحداهما : ربع الرأس ، والأخرى : مقدار ثلاثة أصابع ، ويبدأ بمقدم الرأس . وقال المفروض من مسح الرأس : ( يبدأ بمؤخر الرأس ) . وقال الحسن بن صالح الأوزاعي : ( يمسح مقدم الرأس ) . وقال والليث : ( الفرض مسح جميع الرأس وإن ترك القليل منه جاز ) . وقال مالك : ( الفرض مسح بعض رأسه ) . ولم يحد شيئا . وقوله تعالى : الشافعي وامسحوا برءوسكم يقتضي مسح بعضه وذلك لأنه معلوم أن هذه الأدوات موضوعة لإفادة المعاني ، فمتى أمكننا استعمالها على فوائد مضمنة بها وجب استعمالها على ذلك ، وإن كان قد يجوز دخولها في بعض المواضع صلة للكلام وتكون ملغاة ، نحو ( من ) هي مستعملة على معان منها التبعيض ، ثم قد تدخل في الكلام وتكون [ ص: 345 ] ملغاة وجودها وعدمها سواء . ومتى أمكننا استعمالها على وجه الفائدة وما هي موضوعة له لم يجز لنا إلغاؤها ، فقلنا من أجل ذلك إن الباء للتبعيض وإن جاز وجودها في الكلام على أنها ملغاة . ويدل على أنها للتبعيض أنك إذا قلت : ( مسحت يدي بالحائط ) كان معقولا مسحها ببعضه دون جميعه ، ولو قلت : ( مسحت الحائط ) كان المعقول مسحه جميعه دون بعضه ، فقد وضح الفرق بين إدخال الباء وبين إسقاطها في العرف واللغة ؛ فوجب ؛ إذ كان ذلك كذلك أن نحمل قوله : وامسحوا برءوسكم على البعض حتى نكون قد وفينا الحرف حظه من الفائدة وأن لا نسقطه فتكون ملغاة يستوي دخولها وعدمها . والباء وإن كانت تدخل للإلصاق كقولك : ( كتبت بالقلم ) و ( مررت بزيد ) فإن دخولها للإلصاق لا ينافي كونها مع ذلك للتبعيض فنستعمل الأمرين فيكون مستعملا للإلصاق في البعض المفروض طهارته . ويدل على أنها للتبعيض ما روى عمر بن علي بن مقدم عن إسماعيل بن حماد عن أبيه عن حماد إبراهيم في قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم قال : إذا مسح ببعض الرأس أجزأه ، قال : ولو كانت ( امسحوا رءوسكم ) كان مسح الرأس كله . فأخبر إبراهيم أن الباء للتبعيض وقد كان من أهل اللغة مقبول القول فيها . ويدل على أنه قد أريد بها التبعيض في الآية اتفاق الجميع على جواز ، وهذا هو استعمال اللفظ على التبعيض ، وقول مخالفنا بإيجاب مسح الأكثر لا يعصمه من أن يكون مستعملا للفظ على التبعيض ، إلا أنه زعم أن ذلك البعض ينبغي أن يكون المقدار الذي ادعاه ، وإذا ثبت أن المراد البعض باتفاق الجميع احتاج إلى دلالة في إثبات المقدار الذي حده . ترك القليل من الرأس في المسح والاقتصار على البعض
فإن قيل : لو كانت الباء للتبعيض لما جاز أن تقول : ( مسحت برأسي كله ) كما لا تقول : ( مسحت ببعض رأسي كله ) . قيل له : قد بينا أن حقيقتها ومقتضاها إذا أطلقت التبعيض مع احتمال كونها ملغاة ، فإذا قال : ( مسحت برأسي كله ) علمنا أنه أراد أن تكون الباء ملغاة ، وإذا لم يقل ذلك فهي محمولة على حقيقتها ، كما أن ( من ) حقيقتها التبعيض وقد توجد صلة للكلام فتكون ملغاة في نحو قوله تعالى : ما لكم من إله غيره و يغفر لكم من ذنوبكم ولا يجب من أجل ذلك أن نجعلها ملغاة في كل موضع إلا بدلالة . وقد روي نحو قولنا في جواز مسح بعض الرأس عن جماعة من السلف ، منهم ، روى عنه ابن عمر أنه مسح مقدم رأسه ؛ وعن نافع مثل ذلك . وقال عائشة : ( أي جانب رأسك مسحت أجزأك ) وكذلك قال [ ص: 346 ] الشعبي إبراهيم . ويدل على صحة قول القائلين بفرض البعض ما حدثنا أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي قال : حدثنا قال : حدثنا إبراهيم الحربي محمد بن الصباح قال : حدثنا قال : حدثنا هشيم يونس عن قال : أخبرني ابن سيرين عمرو بن وهب قال : سمعت يقول : خصلتان لا أسأل عنهما أحدا بعدما شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة . إنا كنا معه في سفر ، فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته وجانبي عمامته
وروى عن سليمان التيمي بكر بن عبد الله المزني عن ابن المغيرة عن أبيه : . وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ومسح على ناصيته ووضع يده على العمامة أو مسح على العمامة عبيد الله بن الحسين قال : حدثنا محمد بن سليمان الحضرمي قال : حدثنا كردوس بن أبي عبد الله قال : حدثنا المعلى بن عبد الرحمن قال : حدثنا عن عبد الحميد بن جعفر عن عطاء قال : ابن عباس فثبت بما ذكرنا من ظاهر الكتاب والسنة أن المفروض مسح بعض الرأس . توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رأسه مسحة واحدة بين ناصيته وقرنه
فإن قيل : يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما اقتصر على مسح الناصية لضرورة ، أو كان وضوء من لم يحدث . قيل له : إنه لو كان هناك ضرورة لنقلت كما نقل غيره ، وأما كونه وضوء من لم يحدث فإنه تأويل ساقط ؛ لأن في حديث : المغيرة بن شعبة ولو ساغ هذا التأويل في مسح الناصية لساغ في المسح على الخفين حتى يقال : إنه مسح لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث . أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته ثم توضأ ومسح على ناصيته
واحتج من قال بمسح الجميع بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : فلو كان المفروض بعضه لما مسح النبي صلى الله عليه وسلم جميعه ، ولوجب أن يكون من مسح جميع رأسه متعديا ؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح مقدم رأسه ومؤخره . فيقال له : لا يمتنع أن يكون المفروض البعض والمسنون الجميع ، كما أن المفروض في الأعضاء المغسولة مرة والمسنون ثلاث ، فلا يكون الزائد على المفروض متعديا ؛ إذ أصاب السنة ، وكما أن أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وقال : من زاد فقد اعتدى وظلم هو بعض ظاهرهما ولو مسح ظاهرهما وباطنهما لم يكن متعديا ، وكما أن فرض القراءة على قولنا آية وعلى قول مخالفينا فاتحة الكتاب ، والمسنون عند الجميع قراءة فاتحة الكتاب وشيء معها . المفروض من المسح على الخفين
والمفروض من غسل الوجه ظاهره والمسنون غسل ذلك والمضمضة والاستنشاق ، والمفروض مسح [ ص: 347 ] الرأس والمسنون مسح الأذنين معه ؛ وكما يقول مخالفنا : إن هو الأكثر وإن ترك القليل جائز ولو مسح الجميع لم يكن متعديا بل كان مصيبا ، كذلك نقول : إن المفروض مسح البعض والمسنون مسح الجميع . وإنما قال أصحابنا : إن المفروض مقدار ثلاثة أصابع في إحدى الروايتين وهي رواية الأصل ، وفي رواية المفروض من مسح الرأس : الربع ؛ فإن وجه تقدير ثلاث أصابع أنه لما ثبت أن المفروض مسح البعض بما قدمنا وكان ذلك البعض غير مذكور المقدار في الآية احتجنا فيه إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على ناصيته كان فعله ذلك واردا مورد البيان . الحسن بن زياد
وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب كفعله لأعداد ركعات الصلاة وأفعالها ، فقدروا الناصية بثلاث أصابع ؛ وقد روي عن أنه مسح بين ناصيته وقرنه . ابن عباس
فإن قيل : فقد روي أنه مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر فينبغي أن يكون ذلك واجبا . قيل له : معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك المفروض .
وجائز أن يفعل غير المفروض على أنه مسنون ، فلما روي عنه الاقتصار على مقدار الناصية في حال وروي عنه استيعاب الرأس في أخرى استعملنا الخبرين وجعلنا المفروض مقدار الناصية ؛ إذ لم يرو عنه أنه مسح أقل منها وما زاد عليها فهو مسنون . وأيضا لو كان المفروض أقل من مقدار الناصية لاقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في حال بيانا للمقدار المفروض كما اقتصر على مسح الناصية في بعض الأحوال ، فلما لم يثبت عنه أقل من ذلك دل على أنه هو المفروض .
فإن قيل : لو كان فعله ذلك على وجه البيان لوجب أن يكون المفروض موضع الناصية دون غيره من الرأس كما جعلتها بيانا للمقدار ولم تجز أقل منها ، فلما جاز عند الجميع من القائلين بجواز مسح بعض الرأس ترك مسح الناصية إلى غيرها من الرأس دل ذلك على أن فعله ذلك غير موجب للاقتصار على مقدار . قيل له : قد كان ظاهر فعله يقتضي ذلك لولا قيام الدلالة على أن مسح غير الناصية من الرأس يقوم مقام الناصية ، فلم يوجب تعيين الفرض فيها وبقي حكم فعله في المقدار على ما اقتضاه ظاهر بيانه بفعله .
فإن قيل : لما كان قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم مقتضيا مسح بعضه ، فأي بعض مسحه منه وجب أن يجزيه بحكم الظاهر . قيل له : إذا كان ذلك البعض مجهولا صار مجملا ولم يخرجه ما ذكرت من حكم الإجمال ، ألا ترى أن قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة وقوله : وآتوا الزكاة وقوله : يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله [ ص: 348 ] كلها مجملة لجهالة مقاديرها في حال ورودها ، وأنه غير جائز لأحد اعتبار ما يقع عليه الاسم منها ؟ فكذلك قوله تعالى : برءوسكم وإن اقتضى البعض فإن ذلك البعض لما كان مجهولا عندنا وجب أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان .
فما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل فيه فهو بيان مراد الله به . ودليل آخر : وهو أن سائر أعضاء الوضوء لما كان المفروض منها مقدرا وجب أن يكون كذلك حكم مسح الرأس لأنه من أعضاء الوضوء ؛ وهذا يحتج به على مالك جميعا ؛ لأن والشافعي يوجب مسح الأكثر ويجيز ترك القليل منه فيحصل المفروض مجهول المقدار ، مالكا يقول : ( كل ما وقع عليه اسم المسح جاز ) وذلك مجهول القدر ، وما قلنا من مقدار ثلاثة أصابع فهو معلوم ؛ وكذلك الربع في الرواية الأخرى فهو موافق لحكم أعضاء الوضوء من كون المفروض منها معلوم القدر . والشافعي
وقول مخالفينا على خلاف المفروض من أعضاء الوضوء ؛ ويجوز أن نجعل ذلك ابتداء دليلا في المسألة من غير اعتبار له بمقدار الناصية ، وذلك بأن نقول : لما وجب أن يكون المفروض في مقدار المسح مقدرا اعتبارا بسائر أعضاء الوضوء ثم لم يقدره أحد بغير ما ذكرنا من مقدار ثلاثة أصابع أو مقدار ربع الرأس ، وجب أن يكون هذا هو المفروض من المقدار . فإن قيل : ما أنكرت أن يكون مقدرا بثلاث شعرات ؟ قيل له : هذا محال ؛ لأن مقدار ثلاث شعرات لا يمكن المسح عليه دون غيره ، وغير جائز أن يكون المفروض ما لا يمكن الاقتصار عليه ؛ وأيضا فهو قياس على المسح على الخفين لما كان مقدرا بالأصابع ، وبه وردت السنة وهو مسح بالماء ، وجب أن يكون مسح الرأس مثله . وأما وجه رواية من روى الربع ، فهو أنه لما ثبت أن المفروض البعض وأن مسح شعرة لا يجزي وجب اعتبار المقدار الذي يتناوله الاسم عند الإطلاق إذا أجري على الشخص وهو الربع ؛ لأنك تقول : ( رأيت فلانا ) والذي يليك منه الربع ، فيطلق عليه الاسم ؛ فلذلك اعتبروا الربع واعتبروا أيضا في حلق الرأس الربع لا خلاف بينهم فيه أنه يحل به المحرم إذا حلقه ، ولا يحل عند أصحابنا بأقل منه ؛ فلذلك يوجبون به دما إذا حلقه في الإحرام .
واختلف الفقهاء في ، فقال مسح الرأس بأصبع واحدة أبو حنيفة وأبو يوسف : " لا يجوز مسحه بأقل من ثلاث أصابع ، وإن مسحه بأصبع أو أصبعين ومدها حتى يكون الممسوح مقدار ثلاثة أصابع لم يجز " . وقال ومحمد الثوري وزفر : ( يجزيه ) إلا أن والشافعي يعتبر الربع ، والأصل في ذلك أنه لا يجزي في [ ص: 349 ] مفروض المسح نقل الماء من موضع إلى موضع وذلك لأن المقصد فيه إمساس الماء الموضع لا إجراؤه عليه ، فإذا وضع أصبعا فقد حصل ذلك الماء ممسوحا به ، فغير جائز مسح موضع غيره به ، وليس كذلك الأعضاء المغسولة لأنه لو مسحها بالماء ولم يجره عليها لم يجزه ، فلا يحصل معنى الغسل إلا بجريان الماء على العضو وانتقاله من موضع إلى موضع ، فلذلك لم يكن مستعملا بحصوله من موضع وانتقاله إلى غيره من ذلك العضو . وأما المسح فلو اقتصر فيه على إمساس الماء الموضع من غير جري لجاز ، فلما استغنى عن إجرائه على العضو في صحة أداء الفرض لم يجز نقله إلى غيره . زفر
فإن قيل : فلو صب على رأسه ماء وجرى عليه حتى استوفى منه مقدار ثلاثة أصابع أجزى عن المسح مع انتقاله من موضع إلى غيره ، فهلا أجزته أيضا إذا مسح بأصبع واحدة ونقله إلى غيره قيل له : من قبل أن صب الماء غسل وليس بمسح ، والغسل يجوز نقل الماء فيه من موضع إلى غيره ؛ وأما إذا وضع أصبعه عليه فهذا مسح فلا يجوز أن يمسح بها موضعا غيره . وأيضا فإن الماء الذي يجرى عليه بالصب والغسل يتسع للمقدار المفروض كله ، وما على أصبع واحدة من الماء لا يتسع للمقدار المفروض ، وإنما يكفي لمقدار الأصبع ، فإذا جره إلى غيره فإنما نقل إليه ماء مستعملا في غيره ، فلا يجوز له ذلك .