ذكر الخلاف في المسح على الخفين
قال أصحابنا جميعا والثوري والحسن بن صالح والأوزاعي : ( يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها ) . وروي عن والشافعي مالك : ( أنه لا والليث ، إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان يمسح ما بدا له ) ، قال وقت للمسح على الخفين : ( والمقيم والمسافر في ذلك سواء ) ، وأصحابه يقولون : هذا هو الصحيح من مذهبه ؛ وروى عنه مالك : ( أن المسافر يمسح ولا يمسح المقيم ) ، وروى ابن القاسم أيضا عن ابن القاسم أنه ضعف المسح على الخفين . قال مالك : قد ثبت أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق التواتر والاستفاضة من حيث يوجب العلم ؛ ولذلك قال المسح على الخفين : إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين في الاستفاضة . وما دفع أحد من الصحابة من حيث نعلم المسح على الخفين ، ولم يشك أحد منهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح ، وإنما اختلف في وقت مسحه أكان قبل نزول المائدة أو بعدها ؟ فروى المسح موقتا للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو يوسف عمر وعلي وصفوان بن عسال وخزيمة بن ثابت وعوف بن مالك وابن عباس ، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير موقت وعائشة سعد بن أبي وقاص وجرير بن عبد الله البجلي وحذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة وأبو أيوب الأنصاري وسهل بن سعد وأنس بن مالك وثوبان وعمرو بن أمية عن أبيه وسليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وروى عن الأعمش إبراهيم عن همام عن قال : جرير بن عبد الله . قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على خفيه : قال الأعمش إبراهيم : كانوا معجبين بحديث لأنه أسلم بعد نزول المائدة . ولما كان ورود هذه الأخبار على الوجه الذي ذكرنا من الاستفاضة مع كثرة عدد ناقليها وامتناع التواطؤ والسهو والغفلة عليهم فيها ، وجب استعمالها مع حكم الآية . جرير
وقد بينا أن في الآية احتمالا للمسح ، فاستعملناه في حال لبس الخفين واستعملنا الغسل في حال ظهور [ ص: 354 ] الرجلين ، فلا فرق بين أن يكون مسح النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول المائدة أو بعدها ، من قبل أنه إن كان مسح قبل نزول الآية فالآية مرتبة عليه غير ناسخة له لاحتمالها ما يوجب موافقته من المسح في حال لبس الخفين ولأنه لو لم يكن فيها احتمال لموافقة الخبر لجاز أن تكون مخصوصة به فيكون الأمر بالغسل خاصا في حال ظهور الرجلين دون حال لبس الخفين ، وإن كانت الآية متقدمة للمسح فإنما جاز المسح لموافقة ما احتملته الآية ، ولا يكون ذلك نسخا ولكنه بيان للمراد بها ، وإن كان جائزا نسخ الآية بمثله لتواتره وشيوعه .
ومن حيث ثبت المسح على الخفين ثبت التوقيت فيه للمقيم والمسافر على ما بينا ؛ لأن بمثل الأخبار الواردة في المسح مطلقا ثبت التوقيت أيضا ، فإن بطل التوقيت بطل المسح وإن ثبت المسح ثبت التوقيت . فإن احتج المخالف في ذلك بما روي عن أنه قال عمر بن الخطاب لعقبة بن عامر حين قدم عليه وقد مسح على خفيه جمعة : ( أصبت السنة ) ، وبما روى عن حماد بن زيد كثير بن شنظير عن ، أنه سئل عن الحسن فقال : كنا نسافر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يوقتون . المسح على الخفين في السفر
قيل له : قد روى عن سعيد بن المسيب أنه قال لابنه عمر عبد الله حين أنكر على سعد المسح على الخفين : ( يا بني عمك أفقه منك ، للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة ) سويد بن غفلة عن أنه قال : ( ثلاثة أيام ولياليها للمسافر ويوم وليلة للمقيم ) وقد ثبت عن عمر التوقيت على الحد الذي بيناه ، فاحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم عمر لعقبة حين مسح على خفيه جمعة : ( أصبت السنة ) يعني : أنك أصبت السنة في المسح ، وقوله : ( إنه مسح جمعة ) إنما عنى به أنه مسح جمعة على الوجه الذي يجوز عليه المسح ، كما يقول القائل : ( مسحت شهرا على الخفين ) وهو يعني على الوجه الذي يجوز فيه المسح ؛ لأنه معلوم أنه لم يرد به أنه مسح جمعة دائما لا يفتر ، وإنما أراد به المسح في الوقت الذي يحتاج فيه إلى المسح ، كذلك إنما أراد الوقت الذي يجوز فيه المسح .
وكما تقول : ( صليت الجمعة شهرا بمكة ) والمعنى : في الأوقات التي يجوز فيها فعل الجمعة . وأما قول : ( إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين سافر معهم كانوا لا يوقتون ) فإنه إنما عنى به والله أعلم أنهم ربما خلعوا الخفاف فيما بين يومين أو ثلاثة ، وأنهم لم يكونوا يداومون على مسح الثلاث حسبما قد جرت به العادة من الناس أنهم ليسوا يكادون يتركون خفافهم لا ينزعونها ثلاثا ؛ فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يمسحون أكثر من ثلاث . الحسن
فإن قيل : في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : خزيمة بن ثابت ولو استزدناه لزادنا . وفي حديث المسح على [ ص: 355 ] الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة أبي بن عمارة أنه قال : يا رسول الله أمسح على الخفين ؟ قال : ( نعم ) قال : يوما ؟ قال : ( ويومين ) قال : وثلاثة ؟ قال : ( نعم ، وما شئت ) . وفي حديث آخر قال : حتى بلغ سبعا . قيل له : أما حديث وما قيل فيه ( ولو استزدناه لزادنا ) فإنما هو ظن من الراوي ، والظن لا يغني من الحق شيئا . وأما حديث خزيمة أبي بن عمارة ، فقد قيل : إنه ليس بالقوي ، وقد اختلف في سنده ، ولو ثبت كان قوله : ( وما شئت ) على أنه يمسح بالثلاث ما شاء ، وغير جائز الاعتراض على أخبار التوقيت بمثل هذه الأخبار الشاذة المحتملة للمعاني مع استفاضة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتوقيت .
فإن قيل : لما جاز المسح وجب أن يكون غير موقت كمسح الرأس . قيل له : ، فإن كانت أخبار التوقيت ثابتة فالنظر معها ساقط ، وإن كانت غير ثابتة فالكلام حينئذ ينبغي أن يكون في إثباتها ، وقد ثبت التوقيت بالأخبار المستفيضة من حيث لا يمكن دفعها . وأيضا فإن الفرق بينهما ظاهر من طريق النظر ، وهو أن مسح الرأس هو المفروض في نفسه وليس ببدل عن غيره ، والمسح على الخفين بدل عن الغسل مع إمكانه من غير ضرورة ، فلم يجز إثباته بدلا إلا في المقدار الذي ورد به التوقيت . لا حظ للنظر مع الأثر
فإن قيل : قد جاز وهو بدل عن الغسل . قيل له : أما على مذهب المسح على الجبائر بغير توقيت فهذا السؤال ساقط ؛ لأنه لا يوجب أبي حنيفة ، وهو عنده مستحب تركه لا يضر . وعلى قول المسح على الجبائر أبي يوسف أيضا لا يلزم لأنه إنما يفعله عند الضرورة كالتيمم ، والمسح على الخفين جائز بغير ضرورة ؛ فلذلك اختلفا . ومحمد
فإن قيل : ما أنكرت أن يكون جواز المسح مقصورا على السفر لأن الأخبار وردت فيه ، وأن لا يجوز في الحضر لما روي أن سئلت عن ذلك فقالت : ( سلوا عائشة فإنه كان معه في أسفاره ) ؛ وهذا يدل على أنه لم يمسح في الحضر ؛ لأن مثله لا يخفى على عليا ؟ قيل له : يحتمل أن تكون سئلت عن توقيت المسح للمسافر فأحالت به على عائشة رضي الله عنه . وأيضا فإن علي أحد من روى عائشة جميعا . وأيضا فإن الأخبار التي فيها توقيت مسح المسافر فيها توقيته للمقيم ، فإن ثبت للمسافر ثبت للمقيم . توقيت المسح للمسافر والمقيم
فإن قيل : قد تواترت الأخبار بغسله في الحضر وقوله : . قيل له : إنما ذلك في حال ظهور الرجلين . ويل للعراقيب من النار
فإن قيل : جائز أن يختص حال السفر بالتخفيف دون حال الحضر كالقصر والتيمم والإفطار . قيل له : لم نبح المسح للمقيم ولا للمسافر [ ص: 356 ] قياسا ، وإنما أبحناه بالآثار ، وهي متساوية فيما يقتضيه من المسح في السفر والحضر ، فلا معنى للمقايسة .
واختلف الفقهاء أيضا في المسح من وجه آخر ، فقال أصحابنا : ( أجزأه أن يمسح إذا أحدث ) ، وهو قول إذا غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة قبل الحدث ؛ وروي عن الثوري مثله . وذكر مالك عن الطحاوي مالك : ( أنه لا يجزيه إلا أن يلبس خفيه بعد إكمال الطهارة ) ودليل أصحابنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم : والشافعي ولم يفرق بين لبسه قبل إكمال الطهارة وبعدها . يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها
وروى عن الشعبي المغيرة بن شعبة فمسح عليهما . وروي عن أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ، فأهويت إلى خفيه لأنزعهما ، فقال : مه فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان قال : ( إذا أدخلت قدميك الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما ) . ومن غسل رجليه فقد طهرتا قبل إكمال طهارة سائر الأعضاء ، كما يقال : غسل رجليه ، وكما يقال : صلى ركعة ؛ وإن لم يتم صلاته . وأيضا فإن من لا يجيز ذلك فإنما يأمره بنزع الخفين ثم لبسهما كذلك بقاؤهما في رجليه لحين المسح ؛ لأن استدامة اللبس بمنزلة ابتدائه . عمر بن الخطاب