وقوله تعالى : ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم يدل على أن ، لإخبار الله تعالى بوعيده في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم . قوله تعالى : إقامة الحد عليه لا تكون كفارة لذنوبه إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم استثناء لمن تاب منهم من قبل القدرة عليهم وإخراج لهم من جملة من أوجب الله عليه الحد ؛ لأن الاستثناء إنما هو إخراج بعض ما انتظمته الجملة منها ، كقوله تعالى : إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته فأخرج آل لوط من جملة المهلكين ، وأخرج المرأة بالاستثناء من جملة المنجين . وكقوله تعالى : فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس فكان إبليس خارجا من جملة الساجدين . فكذلك لما استثناهم من جملة من أوجب عليهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم فقد نفى إيجاب الحد عليهم ، وقد أكد ذلك بقوله تعالى : فاعلموا أن الله غفور رحيم كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف عقل بذلك سقوط عقوبات الدنيا والآخرة عنهم .
فإن قال قائل : قد قال في السرقة : فمن تاب من بعد ظلمه [ ص: 60 ] وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ومع ذلك فليست عنه . قيل له : لأنه لم يستثنهم من جملة من أوجب عليهم الحد ، وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم ، وفي آية المحاربين استثناء يوجب إخراجهم من مبتدأ مستغنيا بنفسه عن تضمينه بغيره ، وكل كلام اكتفى بنفسه لم نجعله مضمنا بغيره إلا بدلالة ، وقوله تعالى : توبة السارق مسقطة للحد إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم مفتقر في صحته إلى ما قبله ، فمن أجل ذلك كان مضمنا به .
ومتى سقط الحد المذكور في الآية وجبت حقوق الآدميين من القتل والجراحات وضمان الأموال . ؛ وذلك لأن وجوب الحد بهذا الفعل يسقط ما تعلق به من حق الآدمي ، وإذا وجب الحد سقط ضمان حقوق الآدميين في المال والنفس والجراحات ، كالسارق إذا سرق وقطع لم يضمن السرقة ، وكالزاني إذا وجب عليه الحد لم يلزمه المهر ؛ كذلك المحاربون إذا وجب عليهم الحد سقطت حقوق الآدميين ، وكالقاتل إذا وجب عليه القود لم يلزمه ضمان المال ، فإذا سقط الحد عن المحارب وجب ضمان ما تناوله من مال أو نفس فقال كالسارق إذا درئ عنه الذي يكون محاربا : " من قطع الطريق في المصر ليلا أو نهارا أو بين أبو حنيفة الحيرة والكوفة ليلا أو نهارا فلا يكون قاطعا للطريق إلا في الصحاري " . وحكى أصحاب " الإملاء " عن : " أن الأمصار وغيرها سواء وهم المحاربون ، يقام حدهم " . وروي عن أبي يوسف في اللصوص الذين يكبسون الناس ليلا في دورهم في المصر أنهم بمنزلة قطاع الطريق يجرى عليهم أحكامهم . وحكي عن أبي يوسف أنه لا يكون محاربا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية ؛ وذكر عنه أيضا قال : " المحاربة أن يقاتلوا على طلب المال من غير نائرة " ولم يفرق هاهنا بين المصر وغيره . وقال مالك : " قطاع الطريق الذين يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم المال ، والصحاري والمصر واحد " . وقال الشافعي : " لا يكون محاربا الثوري بالكوفة حتى يكون خارجا منها " . قال : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبو بكر فنفى صلى الله عليه وسلم لا قطع على خائن ولا مختلس ، والمختلس هو الذي يختلس الشيء وهو ممتنع فوجب بذلك اعتبار المنعة من المحاربين وأنهم متى كانوا في موضع لا يمكنهم أن يمتنعوا وقد يلحق من قصدوه الغوث من قبل المسلمين أن لا يكونوا محاربين وأن يكونوا بمنزلة المختلس والمنتهب كالرجل الواحد إذا فعل ذلك في المصر فيكون مختلسا غاصبا لا يجري عليه أحكام قطاع الطريق ، وإذا كانت جماعة ممتنعة [ ص: 61 ] في الصحراء فهؤلاء يمكنهم أخذ أموال السابلة قبل أن يلحقهم الغوث ، فباينوا بذلك المختلس ومن ليس له امتناع في أحكامهم . ولو وجب أن يستوي حكم المصر وغيره لوجب استواء حكم الرجل الواحد والجماعة ؛ ومعلوم أن الرجل الواحد لا يكون محاربا في المصر لعدم الامتناع منه ، فكذلك ينبغي أن يكون حكم الجماعة في المصر لفقد الامتناع منهم على أهل المصر . وأما إذا كانوا في الصحراء فهم ممتنعون غير مقدور عليهم إلا بالطلب والقتال ، فلذلك اختلف حكمهم وحكم من في المصر . القطع عن المختلس
فإن قال قائل : إن كان الاعتبار بما ذكرت فواجب أن يكون العشرة من اللصوص إذا اعترضوا قافلة فيها ألف رجل غير محاربين ؛ إذ قد يمكنهم الامتناع عليهم . قيل له : صاروا محاربين بالامتناع والخروج ، سواء قصدوا القافلة أو لم يقصدوها ، فلا يزول عنهم هذا الحكم بعد ذلك بكون القافلة ممتنعة منهم كما لا يزول بكون أهل الأمصار ممتنعين منهم . وأجرى على اللصوص في المصر حكم المحاربين لامتناعهم والخروج على وجه المحاربة لأخذ المال فلا يختلف حكمهم بالمصر وغيره ، كما أن سائر ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف والقتل لا يختلف أحكام فاعليها بالمصر وغيره . أبو يوسف