فصل نفي القطع في جميع ما ائتمن الإنسان فيه وأما فالأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : اعتبار الحرز رواه لا قطع على خائن ابن عباس . وهو مشتمل على نفي القطع في جميع ما ائتمن الإنسان فيه ، فمنها أن الرجل إذا ائتمن غيره على دخول بيته ولم يحرز منه ماله لم يجب عليه القطع إذا خانه لعموم لفظ الخبر ويصير حينئذ بمنزلة المودع والمضارب وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : وجابر وجوب لا قطع على خائن ويدل أيضا على نفي القطع عن القطع على جاحد الوديعة والمضاربة وسائر الأمانات وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم المستعير إذا جحد العارية فلا دلالة فيه على وجوب القطع على أنه قطع المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده ؛ إذ ليس فيه أنه قطعها لأجل جحودها للعارية وإنما ذكر جحود العارية تعريفا لها إذا كان ذلك معتادا منها حتى عرفت به فذكر ذلك على وجه التعريف وهذا مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجلين أحدهما يحجم الآخر في رمضان : المستعير إذا خان فذكر الحجامة تعريفا لهما والإفطار واقع بغيرها وقد روي في أخبار صحيحة أن أفطر الحاجم والمحجوم قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت وهي هذه المرأة التي ذكر في الخبر أنها كانت تستعير المتاع وتجحده فبين في هذه الأخبار أنه قطعها لسرقتها ويدل على اعتبار الحرز أيضا حديث عن أبيه عن جده أنه سئل عن عمرو بن شعيب فقال : حريسة الجبل . فيها غرامة مثلها وجلدات نكال فإذا أواها المراح وبلغ ثمن المجن ففيه القطع
وقال : ودلالة هذا الخبر على وجوب اعتبار الحرز أظهر من دلالة الخبر الأول وإن كان كل واحد منهما مكتفيا بنفسه في وجوب اعتباره ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن ليس في الثمر المعلق قطع حتى يأويه الجرين فإذا أواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن وأصله في السنة ما وصفنا والحرز عند أصحابنا ما بني للسكنى وحفظ الأموال من الأمتعة [ ص: 67 ] وما في معناها وكذلك الفساطيط والمضارب والخيم التي يسكن الناس فيها ويحفظون أمتعتهم بها كل ذلك حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو لا باب له إلا أنه محجر بالبناء وما كان في غير بناء ولا خيمة ولا فسطاط ولا مضرب فإنه لا يكون حرزا إلا أن يكون عنده من يحفظه وهو قريب منه بحيث يكون حافظا له وسواء كان الحافظ نائما في ذلك الموضع أو مستيقظا والأصل في كون الحافظ حرزا له وإن كان في مسجد أو صحراء حديث الحرز شرط في القطع حين كان نائما في المسجد ورداؤه تحت رأسه ، فسرقه سارق ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه صفوان بن أمية ؛ ولا خلاف أن ، فثبت أنه كان محرزا لكون المسجد ليس بحرز صفوان عنده .
ولذلك قال أصحابنا : " لا فرق بين أن يكون الحافظ له نائما أو مستيقظا " لأن صفوان كان نائما ، وليس المسجد عندهم في ذلك كالحمام ، فمن سرق من الحمام لم يقطع ، وكذلك الخان والحوانيت المأذون في دخولها وإن كان هناك حافظ ، من قبل أن الإذن موجود في الدخول من جهة مالك الحمام والدار فخرج الشيء من أن يكون محرزا من المأذون له في الدخول ، ألا ترى أن من أذن لرجل في دخول داره أن الدار لم تخرج من أن تكون حرزا في نفسها ولا يقطع مع ذلك المأذون له في الدخول ؟ لأنه حين أذن له في الدخول فقد ائتمنه ولم يحرز ماله عنه ، كذلك كل موضع يستباح دخوله بإذن المالك فهو غير حرز من المأذون له في الدخول وأما المسجد فلم يتعلق إباحة دخوله بإذن آدمي فصار كالمفازة والصحراء ، فإذا سرق منه وهناك حافظ له قطع . وحكي عن أن السارق من الحمام يقطع إن كان هناك حافظ له . قال مالك : لو وجب قطعه لوجب قطع السارق من الحانوت المأذون له في الدخول إليه ؛ لأن صاحب الحانوت حافظ له , ومعلوم أن إذنه له في دخوله قد أخرجه من أن يكون ماله فيه محرزا منه ، فكان بمنزلة المؤتمن ؛ ولا فرق بين الحمام والحانوت المأذون في دخوله . أبو بكر
فإن قال قائل : يقطع السارق من الحانوت والخان المأذون له . قيل له : هو كالخائن للودائع والعواري والمضاربات وغيرها ؛ إذ لا فرق بين ما ذكرنا وبينها ، وقد ائتمنه صاحبه بأن لم يحرزه كما ائتمنه في إيداعه ؛ وقال : " إذا سرق من الحمام قطع " . واختلف في عثمان البتي ، فقال قطع النباش أبو حنيفة والثوري ومحمد : " لا قطع على النباش " وهو قول والأوزاعي ابن عباس . وقال ومكحول : " اجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن كان الزهري مروان أميرا [ ص: 68 ] على المدينة أن النباش لا يقطع ويعزر ، وكان الصحابة متوافرين يومئذ " . وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى وأبو الزناد وربيعة : " يقطع " وروي مثله عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والشعبي والزهري ومسروق والحسن والنخعي ، وهو قول وعطاء . والدليل على صحة القول الأول أن القبر ليس بحرز ، والدليل عليه اتفاق الجميع على أنه الشافعي لم يقطع لعدم الحرز ، والكفن كذلك . لو كان هناك دراهم مدفونة فسرقها
فإن قيل : إن الأحراز مختلفة ، فمنها شريجة البقال حرز لما في الحانوت ، والإصطبل حرز للدواب ، والدور للأموال ، ويكون الرجل حرزا لما هو حافظ له ، وكل شيء من ذلك حرز لما يحفظ به ذلك الشيء في العادة ولا يكون حرزا لغيره ، فلو لم يقطع ، ولو سرق منه دابة قطع ؛ كذلك القبر هو حرز للكفن وإن لم يكن حرزا للدراهم . قيل له : هذا كلام فاسد من وجهين : سرق دراهم من إصطبل
أحدهما : أن الأحراز على اختلافها في أنفسها ليست مختلفة في كونها حرزا لجميع ما يجعل فيها ؛ لأن الإصطبل لما كان حرزا للدواب فهو حرز للدراهم والثياب ويقطع فيما يسرقه منه ، وكذلك حانوت البقال هو حرز لجميع ما فيه من ثياب ودراهم وغيرها ؛ فقول القائل " الإصطبل حرز للدواب ولا يقطع من سرق منه دراهم غلط .
والوجه الآخر : أن قضيتك هذه لو كانت صحيحة لكانت مانعة من إيجاب قطع النباش ؛ لأن القبر لم يحفر ليكون حرزا للكفن فيحفظ به ، وإنما يحفر لدفن الميت وستره عن عيون الناس ؛ وأما الكفن فإنما هو للبلى والهلاك . ودليل آخر ، وهو أن الكفن لا مالك له ، والدليل عليه أنه من جميع المال ، فدل على أنه ليس في ملك أحد ولا موقوف على أحد ؛ فلما صح أنه من جميع المال وجب أن لا يملكه الوارث كما لا يملكون ما صرف في الدين الذي هو من جميع المال . ويدل عليه أيضا أن ، فإذا لم يملك الوارث ما يقضي به الديون فهو أن لا يملك الكفن أولى ، وإذا لم يملكه الوارث واستحال أن يكون الميت مالكا وجب أن لا يقطع سارقه كما لا يقطع الكفن يبدأ به على الديون وآخذ الأشياء المباحة التي لا مالك لها . سارق بيت المال
فإن قال قائل جواز خصومة الوارث في المطالبة بالكفن دليل على أنه ملكه . قيل له : الإمام يطالب بما يسرق من بيت المال ولا يملكه . ووجه آخر ، وهو أن الكفن يجعل هناك للبلى والتلف لا للقنية والتبقية ، فصار بمنزلة الخبز واللحم والماء الذي هو للإتلاف لا للتبقية .
فإن قال قائل : القبر حرز للكفن ، لما روى عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول [ ص: 69 ] الله صلى الله عليه وسلم : أبي ذر . فسمى القبر بيتا . وقال كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف ؟ يعني القبر . قلت : الله ورسوله أعلم قال : عليك بالصبر : " يقطع النباش لأنه دخل على الميت بيته " . حماد بن أبي سليمان
وروى عن مالك أبي الرحال عن أم عمرة : . وروت أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المختفي والمختفية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عائشة من اختفى ميتا فكأنما قتله . وقال أهل اللغة : المختفي النباش . قيل له : إنما سماه بيتا على وجه المجاز ؛ لأن البيت موضوع في لغة العرب لما كان مبنيا ظاهرا على وجه الأرض ، وإنما سمي القبر بيتا تشبيها بالبيت المبني ، ومع ذلك فإن قطع السارق ليس معلقا بكونه سارقا من بيت إلا أن يكون ذلك البيت مبنيا ليحرز به ما يجعل فيه ، وقد بينا أن القبر ليس بحرز ؛ ألا ترى أن المسجد يسمى بيتا ، قال الله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ولو سرق من المسجد لم يقطع إذا لم يكن له حافظ ؟ وأيضا فلا خلاف أنه لو كان في القبر دراهم مدفونة فسرقها لم يقطع وإن كان بيتا ، فعلمنا أن قطع السرقة غير متعلق بكونه بيتا . وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : وما روي أنه قال : لعن الله المختفي من اختفى ميتا فكأنما قتله فإن هذا إنما هو لعن له ، واستحقاق اللعن ليس بدليل على وجوب القطع ؛ لأن الغاصب والكاذب والظالم، كل هؤلاء يستحقون اللعن ولا يجب قطعهم ؛ وقوله : من اختفى ميتا فكأنما قتله فإنه لم يوجب به قطعا وإنما جعله كالقاتل ؛ وإن كان معناه محمولا على حقيقة لفظه فواجب أن نقتله ، وهذا لا خلاف فيه ، ولا تعلق لذلك بالقطع