قوله: فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده (249).
وذكر من أصحاب أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: أن ذلك يدل على أن الشرب من النهر إنما يكون بالكرع فيه، ووضع الشفة عليه لأنه كان حظر الشرب منه إلا لمن اغترف غرفة بيده، وهذا يدل على أن الاغتراف منه ليس بشرب، وهو تصحيح لقول أبي حنيفة فيمن قال: أبي حنيفة
"إن شربت من ماء الفرات فعبدي حر" ، أنه محمول على أن يكرع فيه، فأما إذا اغترف منه أو شرب بإناء لم يحنث" .
وهذا بعيد، فإن الله تعالى أراد ابتلاءهم بالنهر، ليتبين المحقق بنيته في الجهاد من المعذر، فمن شرب منه أي: من مائه فأكثر، فقد عصى الله تعالى، ومن اغترف غرفة بيده أقنعته.
فهجموا على النهر بعد عطش شديد، فوقع أكثرهم في النهر، وأكثروا الشرب، فبان بذلك ضعف نيتهم في أنهم يجبنون عن لقاء العدو، [ ص: 223 ] وأطاع قوم قليل عددهم، فلم يزيدوا على الاغتراف ضابطين لأنفسهم، فأبانوا بذلك عن ضبطهم لأنفسهم، وصبرهم في الشدائد، وقوى الله بذلك قلوبهم.
وليس حكم اليمين مأخوذا من هذا الجنس، بل هو مأخوذ من دلالة اللفظ، يدل عليه أن الآية حجة عليهم من وجه آخر، فإنه قال: فمن شرب منه ، إلا من اغترف غرفة بيده فاستثنى المغترف من الشارب، ولو لم يكن اللفظ الأول دالا عليه لما صح الاستثناء منه إلا بتقدير، كونه استثناء منقطعا، وظاهر الاستثناء يدل على خلافه.