قوله تعالى: " واضرب لهم مثلا رجلين " روى عن عطاء قال: هما ابنا ملك كان في بني إسرائيل توفي وتركهما، فاتخذ أحدهما الجنان والقصور، وكان الآخر زاهدا في الدنيا، فكان إذا عمل أخوه شيئا من زينة [ ص: 139 ] الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدمه لآخرته، حتى نفد ماله، فضربهما الله عز وجل مثلا للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة . وروى ابن عباس، عن أبو صالح أن المسلم لما احتاج تعرض لأخيه الكافر، فقال الكافر: أين ما ورثت عن أبيك، فقال: أنفقته في سبيل الله، فقال الكافر: لكني ابتعت به جنانا وغنما وبقرا، والله لا أعطيتك شيئا أبدا حتى تتبع ديني، ثم أخذ بيد المسلم فأدخله جنانه يطوف به فيها، ويرغبه في دينه . وقال ابن عباس: اسم المؤمن: مقاتل: يمليخا، واسم الكافر: قرطس، وقيل: قطرس، وقيل: هذا المثل [ ضرب ] لعيينة بن حصن وأصحابه، ولسلمان وأصحابه .
قوله تعالى: " وحففناهما بنخل " الحف: الإحاطة بالشيء، ومنه قوله: حافين من حول العرش [ الزمر: 75 ]، والمعنى: جعلنا النخل مطيفا بها . وقوله: " وجعلنا بينهما زرعا " إعلام أن عمارتهما كاملة .
قوله تعالى: " كلتا الجنتين آتت أكلها " قال لم يقل: آتتا ; لأن " كلتا " ثنتان لا تفرد واحدتهما، وأصله: ( كل )، كما تقول للثلاثة: ( كل )، فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع، وجاز توحيده على مذهب ( كل )، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في ( كلتا )، وكذلك فافعل بـ( كلا، وكلتا، وكل )، إذا أضفتهن إلى معرفة وجاء الفعل بعدهن، فوحد واجمع، فمن التوحيد قوله تعالى: الفراء: وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ مريم: 96 ]، ومن الجمع: وكل أتوه داخرين [ النمل: 87 ]، والعرب قد تفعل أيضا في ( أي ) فيؤنثون ويذكرون، قال الله تعالى: وما تدري نفس بأي أرض تموت [ لقمان: 34 ]، ويجوز في الكلام: ( بأيت أرض )، وكذلك: [ ص: 140 ] في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار: 8 ]، ويجوز في الكلام ( في أيت )، قال الشاعر:
بأي بلاء أم بأية نعمة تقدم قبلي مسلم والمهلب
قال " كلتا " وإن كان واقعا في المعنى على اثنتين، فإن لفظه لفظ واحدة مؤنثة، فغلب اللفظ، ولم يستعمل المعنى ثقة بمعرفة المخاطب به، ومن ابن الأنباري: العرب من يؤثر المعنى على اللفظ، فيقول: ( كلتا الجنتين آتتا أكلها )، ويقول آخرون: ( كلتا الجنتين آتى أكله ) ; لأن " كلتا " تفيد معنى ( كل )، قال الشاعر:
وكلتاهما قد خط لي في صحيفتي فلا الموت أهواه ولا العيش أروح
يعني: وكلهما قد خط لي، وقد قالت العرب: كلكم ذاهب، وكلكم ذاهبون، فوحدوا للفظ ( كل ) وجمعوا لتأويلها . وقال لم يقل: ( آتتا ) ; لأن لفظ " كلتا " لفظ واحدة، والمعنى: كل واحدة منهما آتت أكلها . " الزجاج: ولم تظلم " ; أي: لم تنقص، " منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا " فأعلمنا أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أغزر الشرب . وقال إنما قال: " فجرنا " بالتشديد، وهو نهر واحد ; لأن النهر يمتد، فكان التفجر فيه كله . قرأ الفراء: أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وابن يعمر، ( وفجرنا ) بالتخفيف . وقرأ وابن أبي عبلة: أبو مجلز ( خللهما ) . وقرأ وأبو المتوكل: أبو العالية وأبو عمران: ( نهرا ) بسكون الهاء .
قوله تعالى: " وكان له " يعني: للأخ الكافر، " ثمر " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، ( وكان له ثمر )، ( وأحيط بثمره ) بضمتين . وقرأ والكسائي: ( وكان لهم ثمر )، ( وأحيط بثمره ) بفتح الثاء والميم فيهما . [ ص: 141 ] وقرأ عاصم: ( ثمر ) و( بثمره ) بضمة واحدة وسكون الميم . قال أبو عمرو: ( الثمر ) بفتح الثاء والميم: المأكول، وبضمها: المال . وقال الفراء: ( الثمر ) بالفتح: الجمع الأول، و( الثمر ) بالضم: جمع الثمر، يقال: ثمر وثمر، كما يقال: أسد وأسد، ويصلح أن يكون الثمر جمع الثمار، كما يقال: حمار وحمر، وكتاب وكتب، فمن ضم قال: الثمر أعم ; لأنها تحتمل الثمار المأكولة والأموال المجموعة . قال ابن الأنباري: وقراءة أبو علي الفارسي: ( ثمر ) يجوز أن تكون جمع ثمار، ككتاب وكتب، فتخفف، فيقال: كتب، ويجوز أن يكون ( ثمر ) جمع ثمرة، كبدنة وبدن، وخشبة وخشب، ويجوز أن يكون ( ثمر ) واحدا، كعنق وطنب . أبي عمرو:
وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس .
والثاني: أنه الذهب والفضة، قاله مجاهد .
والثالث: أنه جمع ثمرة، قال يقال: ثمرة، وثمار، وثمر . الزجاج:
فإن قيل: ما الفائدة في ذكر الثمر بعد ذكر الجنتين، وقد علم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر ؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه لم يكن أصل الأرض ملكا له، وإنما كانت له الثمار، قاله ابن عباس .
والثاني: أن ذكر الثمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنتين وغيرهما، ذكره ابن الأنباري .
والثالث: إنا قد ذكرنا أن المراد بالثمر: الأموال من الأنواع، وذكرنا [ ص: 142 ] أنها الذهب والفضة، وذلك يخالف الثمر المأكول، قال من قال: هو الذهب والورق، فإنما قيل لذلك: ( ثمر ) على التفاؤل ; لأن الثمر نماء في ذي الثمر، وكونه هاهنا بالجنى أشبه من الذهب والفضة . ويقوي ذلك: " أبو علي الفارسي: وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها " ، والإنفاق من الورق لا من الشجر .
قوله تعالى: " فقال " يعني: الكافر، " لصاحبه " المؤمن، " وهو يحاوره " ; أي: يراجعه الكلام ويجاوبه .
وفيما تحاورا فيه قولان:
أحدهما: أنه الإيمان والكفر .
والثاني: طلب الدنيا وطلب الآخرة . فأما ( النفر ) فهم الجماعة، ومثلهم: القوم والرهط، [ ولا واحد لهذه الألفاظ من لفظها . وقال ]: النفر: عدة رجال من ثلاثة إلى العشرة . ابن فارس اللغوي
وفيمن أراد بنفره ثلاثة أقوال:
أحدها: عبيدة، قاله والثاني: ولده، قاله ابن عباس . والثالث: عشيرته ورهطه، قاله مقاتل . أبو سليمان .
قوله تعالى: " ودخل جنته " يعني: الكافر، " وهو ظالم لنفسه " بالكفر، وكان قد أخذ بيد أخيه فأدخله معه، " قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " أنكر فناء الدنيا وفناء جنته، وأنكر البعث والجزاء بقوله: " وما أظن الساعة قائمة " ، وهذا شك [ منه ] في البعث، ثم قال: " ولئن رددت إلى ربي " ; أي: كما تزعم أنت . قال [ ]: يقول: إن كان البعث حقا، " ابن عباس لأجدن خيرا منها " قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، ( خيرا منها )، وكذلك هي في مصاحف أهل والكسائي: البصرة والكوفة . وقرأ ابن كثير، ونافع، ( خيرا منهما ) بزيادة [ ص: 143 ] ميم على التثنية، وكذلك هي في مصاحف أهل وابن عامر: مكة والمدينة والشام . قال أبو علي: الإفراد أولى ; لأنه أقرب إلى الجنة المفردة في قوله: " ودخل جنته " ، والتثنية لا تمتنع لتقدم ذكر الجنتين .
قوله تعالى: " منقلبا " ; أي: كما أعطاني هذا في الدنيا، سيعطيني في الآخرة أفضل منه .