القول في تأويل قوله تعالى:
[203] واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون .
واذكروا الله في أيام معدودات هي أيام التشريق، قاله رضي الله عنه. وروى الإمام ابن عباس عن مسلم نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: . وقال « أيام التشريق [ ص: 505 ] أيام أكل وشرب وذكر الله » معنى هذه الآية: التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر! الله أكبر!. عكرمة:
وروى عن البخاري أنه كان يكبر ابن عمر: بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي مجلسه، وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا. وفي رواية: أنه كان يكبر في قبته، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى. أخرجه تعليقا. البخاري
ومن الذكر في هذه الأيام: التكبير مع كل حصاة من حصى الجمار كل يوم من أيام التشريق، فقد ورد في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر مع كل حصاة.
وقد جاء في الحديث الذي رواه وغيره: أبو داود بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل » . « إنما جعل الطواف
وروى في موطئه عن مالك أنه بلغه أن يحيى بن سعيد خرج الغد من يوم النحر حين ارتفاع النهار شيئا، فكبر، فكبر الناس بتكبيره. ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار فكبر، فكبر الناس بتكبيره. ثم خرج الثالثة حين زاغت الشمس فكبر، فكبر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ عمر بن الخطاب البيت فيعلم أن قد خرج يرمي. عمر
ثم قال مالك: على الرجال والنساء - من كان في جماعة أو وحده والتكبير في أيام التشريق بمنى أو بالآفاق كلها واجب.
[ ص: 506 ] ثم قال: الأيام المعدودات: أيام التشريق.
وفي القاموس وشرحه: التشريق تقديد اللحم، ومنه سميت أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي: تشرر في الشمس - حكاه يعقوب، وقيل: سميت بذلك لقولهم: أشرق ثبير كيما نغير ; أو لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس - قاله قال ابن الأعرابي. وكان أبو عبيد: يذهب بالتشريق إلى التكبير، ولم يذهب إليه غيره. أبو حنيفة
فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه أي: فمن تعجل النفر الأول من هذه الأيام الثلاثة، فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث. واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة، فلا يأثم بهذا لتعجيل. وإيضاحه: أنه يجب على الحاج بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق. ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة. يرمي عند كل جمرة سبع حصيات. ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها، فذلك واسع له: المبيت ومن تأخر أي: حتى رمى في اليوم الثالث، وهو النفر الثاني: فلا إثم عليه في تأخره. واعلم: السنة هو التأخر فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة. ولا يقال هذا اللفظ - أعني: فلا إثم عليه إنما يقال في حق المقصر لا في حق من أتى بتمام العمل، لأنا نقول: أتى به لمشاكلة اللفظ الأول كقوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة [ ص: 507 ] ولا عدوان. فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى ; فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى ; لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه - قاله الواحدي.
وقال رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة - أي: كناية عنها - وقيل: رفع الإثم: أنه حط ذنوبهما بإقامتهما الحج - تعجل أو تأخر - بشرط أن يكون مقياسهما الاعتبار بالتقوى، وعلى ذلك دل حديث: الراغب: . « من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه »
وقوله تعالى: لمن اتقى خبر لمبتدأ محذوف، أي: الذي ذكر - من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر، أو من الأحكام - لمن اتقى، لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به، على حد: ذلك خير للذين يريدون وجه الله وقوله: هدى للمتقين واتقوا الله في مجامع أموركم: واعلموا أنكم إليه تحشرون أي: للجزاء على أعمالكم، وهو تأكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار ; صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى. والحشر: اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف.