القول في تأويل قوله تعالى:
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا [6]
[ ص: 1127 ] وابتلوا اليتامى أي: اختبروا عقولهم ومعرفتهم بالتصرف حتى إذا بلغوا النكاح أي: بأن يحتلموا أو يبلغوا خمس عشرة سنة؛ لما في الصحيحين عن قال: ابن عمر . إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني
قال : فقدمت على نافع وهو خليفة فحدثته هذا الحديث فقال: إن هذا لحد بين الصغير والكبير، وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة. عمر بن عبد العزيز
وكذا نبات الشعر الخشن حول العورة؛ لما رواه وأهل السنن عن الإمام أحمد عطية القرظي قال: قال عرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلى سبيله، فكنت فيمن لم ينبت، فخلى سبيلي : حسن صحيح. الترمذي
فإن آنستم أي: شاهدتم وتبينتم منهم رشدا أي: صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم، قاله ، وروي عن سعيد بن جبير ابن عباس وغير واحد من الأئمة والحسن فادفعوا إليهم أموالهم أي: من غير تأخير .
وظاهر الآية الكريمة أن لأنها مفسدة للمال. من بلغ غير رشيد إما بالتبذير أو بالعجز أو بالفسق، لا يسلم إليه ماله؛
ولا تأكلوها أيها الأولياء إسرافا وبدارا أن يكبروا أي: مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، تفرطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا.
ومن كان من الأولياء غنيا فليستعفف أي: يتنزه عن أكل مال اليتيم، فإنه عليه كالميتة والدم، وليقنع بما آتاه الله تعالى من الزرق ومن كان فقيرا يمنعه اشتغاله بمال اليتيم عن الكسب، وإهماله يفضي إلى تلفه عليه فليأكل بالمعروف بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته.
كما رواه عن ابن أبي حاتم [ ص: 1128 ] حيث قالت: فليأكل بالمعروف بقدر قيامه عليه، ورواه عائشة أيضا. البخاري
قال : قال الفقهاء: ابن كثير أجرة مثله، وقدر حاجته، وهل يرد إذا أيسر؟ وجهان: له أن يأكل أقل الأمرين:
أحدهما: لا يرد لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا، وهذا هو الصحيح عند أصحاب لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل. الشافعي؛
وروى ، عن الإمام أحمد ، عن أبيه عن جده عمرو بن شعيب . أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ليس لي مال ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبذر ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك أو قال: تفدي مالك بماله
ورواه ولفظه: ابن أبي حاتم كل بالمعروف غير مسرف ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
وروى في: "صحيحه" ابن حبان في: "تفسيره" عن وابن مردويه جابر . أن رجلا قال: يا رسول الله! مما أضرب يتيمي؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك، غير واق مالك بماله، ولا متأثل منه مالا
وروى ، عن عبد الرزاق عن الثوري، عن يحيى بن سعيد، القاسم بن محمد قال: جاء أعرابي إلى فقال: إن في حجري أيتاما، وإن لهم إبلا، ولي إبل وأنا أمنح من إبلي فقراء، فماذا يحل لي من ألبانها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتسعى عليها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب ، ورواه ابن عباس في موطئه. وبهذا القول - وهو عدم أداء البدل - [ ص: 1129 ] يقول مالك عطاء بن أبي رباح، وعكرمة، ، وإبراهيم النخعي وعطية العوفي ، والحسن البصري
والوجه الثاني: يرد؛ لأن ، وإنما أبيح للحاجة، فيرد بدله، كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة. مال اليتيم على الحظر
وقد روى عن ابن أبي الدنيا، حارثة بن مضرب قال: قال - رضي الله عنه -: إني أنزلت نفسي من هذا المال منزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرت قضيت. عمر
وروى في: "سننه": حدثنا سعيد بن منصور أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن قال: قال لي البراء - رضي الله عنه -: "إنما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت " قال عمر : إسناد صحيح. ابن كثير
وروى ، عن البيهقي نحو ذلك، وهكذا رواه ابن عباس من طريق ابن أبي حاتم علي بن أبي طلحة ، عن في قوله: ابن عباس فليأكل بالمعروف يعني القرض، قال: وروي عن عبيدة وأبي العالية وأبي وائل ، (في إحدى الروايات) وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والشعبي نحو ذلك. والسدي
قال الفخر الرازي : وبعض أهل العلم خص هذا الإقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها.
وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال، وهذا قول وغيره، واحتجوا بأن الله تعالى قال: أبي العالية فإذا دفعتم إليهم أموالهم فحكم في الأموال بدفعها إليهم، انتهى.
أقول: الكل محتمل، إذ لا نص من الأصلين على واحد منها، ولا يخفى الورع.
فإذا دفعتم إليهم أموالهم أي: بعد البلوغ والرشد فأشهدوا عليهم أي: عند [ ص: 1130 ] الدفع بأنهم قبضوها، فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة.
قال السيوطي : فيه الأمر بالإشهاد ندبا، وقيل: وجوبا، ويستفاد منه أن القول في الدفع قول الصبي لا الولي، فلا يقبل قوله إلا ببينة.
وكفى بالله حسيبا أي: كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبا، فلا تخالفوا ما أمركم به، ولا يخفى موقع هذا التذييل هنا، فإن . الوصي يحاسب على ما في يده
وفيه وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره؛ لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله.
وقد ثبت في صحيح مسلم إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم أبا ذر . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا