قال شيخ الإسلام رحمه الله فصل قد كتبت فيما تقدم : الكلام في " المكاشفات والمشاهدات " وأنها على " ثلاثة أقسام " في الظاهر والباطن .
وكذلك " . السماع والمخاطبات والمحادثات " ثلاثة أقسام : في الباطن والظاهر
فإن " السامع " إما أن يسمع نفس الصوت الذي هو كلام المتكلم الصوتي أو غير كلامه .
كما ترى عينه وإما أن يسمع صدى الصوت ورجعه كما يرى تمثاله في ماء أو مرآة فهذه رؤية مقيدة وسماع مقيد كما يقال : رأيته في المرآة لكن السمع يجمع بين الصورتين .
وإما أن يتمثل له : يعني كلامه في أصوات مسموعة كما يتمثل له في صورة فيراها .
مثل أن ينقر بيده نقرات أو يضرب بيده أوتارا أو يظهر أصواتا منفصلة عنه يبين فيها مقصوده .
[ ص: 637 ] وكذلك في الباطن : إما أن يسمع في المنام أو في اليقظة نفس كلام المتكلم .
مثل الملائكة مثلا كما يرى بقلبه عين ما يكشف له في المنام واليقظة .
وإما أن يسمع مثال كلامه في نفسه كما يرى مثاله في نفسه بمنزلة الرؤيا التي يكون تعبيرها عين ما رئي وإما أن تتمثل له المعاني في صورة كلام مسموع يحتاج إلى تعبير .
كما تتمثل له الأعيان في صورة أشخاص مرئية تحتاج إلى تعبير .
وهذا غالب ما يرى ويسمع في المنام .
فإنه يحتاج إلى تأويل وهو بمنزلة الاستعارة والأمثال المضروبة .
فهذا هذا . والله أعلم .
فصل في الكون يقظة ومناما : لما كانت الرؤية بالعين للأشياء على وجهين : ( أحدهما رؤية العين الشيء بلا واسطة وهي الرؤية المطلقة .
مثل رؤية الشمس والقمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { } " وقد تنازع الناس هل الرؤية انطباع المرئي في العين أو لانعكاس شعاع البصر أو لا لواحد منهما . إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر
على أقوال معروفة .
[ ص: 638 ] و ( الثاني رؤية المثال ; وهي الرؤية في ماء ومرآة ونحوهما .
وهي رؤية مقيدة ولهذا قال الفقهاء لو حلف لا رأيت زيدا ; فرأى صورته في ماء أو مرآة لم يحنث ; لأن ذلك ليس هو المفهوم من مطلق الرؤية وهذا في الرؤية . كسماع الصدى في السمع فإذا أراد الإنسان أن يرى ما يمر وراءه من الناس والدواب نظر في المرآة التي تواجهه فتنجلي له فيها حقائق ما وراءه فمن هذه الرؤيا قد يرى بيان الحقيقة وقد تتمثل له الحقيقة بمثال يحتاج إلى تحقيق .
كما تمثل جبريل في صورة البشر وهكذا القلب من شأنه أن يبصر فإن بصره هو البصر وعماه هو العمى .
كما قال تعالى : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } .
فتارة يرى الشيء نفسه إذا كشف له عنه وتارة يراه متمثلا في قلبه الذي هو مرآته والقلب هو الرائي أيضا .
وهذا يكون يقظة ويكون مناما كالرجل يرى الشيء في المنام ثم يكون إياه في اليقظة من غير تغير .
وللقلب " حال ثالثة " كما للعين نظر في المنام : وهي التي تقع لغالب الخلق . أن يرى الرؤيا مثلا مضروبا للحقيقة لا يضبط رؤية الحقيقة بنفسها ولا بواسطة مرآة قلبه .
ولكن يرى ما له تعبير فيعتبر [ به ] و " عبارة الرؤيا " هو العبور من الشيء إلى مثاله ونظيره وهو [ ص: 639 ] حقيقة المقايسة والاعتبار ; فإن إدراك الشيء بالقياس والاعتبار الذي ألفه الإنسان واعتاده أيسر من إدراك شيء على البديهة من غير مثال معروف .
ثم المرئي في هذا الوجه : في هذه الحال ; وفي الحال التي قبلها هو موجود في قلب الإنسان ونفسه وإن كان مثلا للحقيقة وواسطة لها .
والمرئي في الوجه الأول : هو عين الموجود في الخارج لا مرئي في القلب ومن العامة المتفلسفة من وذلك مبلغ هؤلاء من العلم ; لأن ذلك هو غاية ما وجدوه ورأوه من أبناء جنسهم فظنوا أن ليس وراء ذلك غاية . يزعم : أن ما يسمعه الأنبياء من الكلام ويرونه من الملائكة إنما وجوده في قلوبهم
وقد يعارضهم من يتوهم أن ما يسمع ويرى لا يكون في نفس الإنسان بل جميعه من الخارج .
وكلاهما خطأ ; بل منه ما يكون في نفس الإنسان : مثل ما يراه ويسمعه في المنام إما مثالا لا تعبير له أو له تعبير .
ومنه ما يكون في الخارج : مثل رؤية مريم للرسول إذ تمثل لها [ ص: 640 ] بشرا سويا ورؤية الصحابة لجبريل في صورة الأعرابي .
فقد ظهر أن رؤية الحقائق بالعين تطابق لرؤياها بالقلب كل منهما " ثلاثة أقسام " إدراك الموجود في الخارج بعينه وإدراكه بواسطة تمثله في مرآة باطنة أو ظاهرة وإدراكه متمثلا في غير صورته إما باطنا في القلب وإما ظاهرا في العين . والله سبحانه أعلم .
فالقياس في الحسيات كالقياس في العقليات وهذا الذي كتبته في المكاشفات يجيء مثله في المخاطبات فإن البصر والسمع يظهران ما يتلوه .