[ ص: 89 ] فصل وأما الأصل الثاني ( وهو التوحيد في العبادات ) المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعا . فنقول : لا بد من فيجب الإيمان بخلق الله وأمره الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه على كل شيء قدير وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقد علم ما سيكون قبل أن يكون وقدر المقادير وكتبها حيث شاء كما قال تعالى : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير }
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { } . ويجب إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء كما خلق الجن والإنس لعبادته وبذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وعبادته تتضمن [ ص: 90 ] كمال الذل والحب له وذلك يتضمن كمال طاعته { الإيمان بأن الله أمر بعبادته وحده لا شريك له من يطع الرسول فقد أطاع الله }
وقد قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وقال تعالى : { إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } وقال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }
وقال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " { بابن مريم لأنا ; إنه ليس بيني وبينه نبي } إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء إخوة لعلات وإن أولى الناس
وهذا الدين هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره لا من الأولين ولا من الآخرين فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام قال الله تعالى عن نوح { واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم } إلى قوله : { وأمرت أن أكون من المسلمين } . وقال عن إبراهيم : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } إلى قوله ; { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } إلى قوله : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
وقال عن موسى : { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } وقال في خبر المسيح : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون }
وقال فيمن تقدم من الأنبياء : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } وقال عن بلقيس أنها قالت : { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين }
; فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده . فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره ; وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت ; فإذا أمر في أول الأمر باستقبال [ ص: 92 ] الصخرة ثم أمرنا ثانيا باستقبال فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده الكعبة : كان كل من الفعلين حين أمر به داخلا في الإسلام
فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين ; وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجه المصلى فكذلك الرسل دينهم واحد وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجه والمنسك ; فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدا كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد
والله تعالى جعل من دين الرسل : أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به قال الله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين }
قال ابن عباس : لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }
وجعل الإيمان متلازما وكفر من قال : إنه آمن ببعض وكفر ببعض [ ص: 93 ] قال الله تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا } { أولئك هم الكافرون حقا } وقال تعالى : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } إلى قوله : { تعملون }
وقد قال لنا : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم }
فأمرنا أن نقول : آمنا بهذا كله ونحن له مسلمون فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلما ولا مؤمنا ; بل يكون كافرا وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن . كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } قالت اليهود والنصارى : فنحن مسلمون : فأنزل الله : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فقالوا : لا نحج فقال تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين }
فإن من حج الاستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بما له على عباده البيت ; كما [ ص: 94 ] قال صلى الله عليه وسلم " { محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت } بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن
ولهذا لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة أنزل الله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }
وقد تنازع الناس موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا ؟ " وهو نزاع لفظي " فإن الإسلام الخاص الذي بعث الله به فيمن تقدم من أمة محمدا صلى الله عليه وسلم المتضمن لشريعة القرآن : ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبيا فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء .