واذكروا الله في أيام معدودات هذا ذكر لله خاص في أيام مذكورة بعد قضاء مناسك الحج ; وقد أمر الله في الآية السابقة بالذكر العام ، وفي هذه الآية ذكر [ ص: 631 ] خاص ، ، وقد نقل والأيام المعدودات التي يصحبها ذكر خاص ، أيام التشريق الثلاثة القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن عن الإجماع على أن الأيام المعدودات في الآية الكريمة هي أيام أبي عمر بن عبد البر منى ، أيام التشريق الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة ، وهي أيام أكل وشرب . وذكر الله الخاص في هذه الأيام بالتصدق على الفقراء من الذبائح التي ذبحوها في يوم النحر ، ورمي الجمار فيها ، بعد أن يكون الحجيج قد رموا جمرة العقبة في يوم النحر ; وفي رمي الجمار يكبر عند كل حصاة يرميها ; وهذا بلا شك ذكر خاص .
ورمي الجمار على ذلك الشكل في أيام منى الثلاثة عملي حسي مادي يقترن به عمل نفسي وجداني ، وهو إشعار القلب بعظمة رب العالمين ، وتلك الحركات الجسمية هي للدلالة على التعلق القلبي بالأرض التي بارك الله فيها ، وبالتالي التعلق بمن شرفها بالانتساب إليه ، فسماها حرمه المقدس ، وبيته الآمن . وكون الحركات على هذا الشكل وبهذا الوضع ليس من الأمور التي تعلل ، كما أن محاولة معرفة العلة في كون الصلاة على هذا الشكل محاولة في غير جداء ، إنما هذا أمر توقيفي ، قد ارتضاه رب العالمين على لسان النبي الكريم سبيل الزلفى إليه ، وتوجه القلوب نحو ذاته العلية التي لا يحدها مكان ، ولا يجري عليها الزمان .
وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن هذه الأيام هي أيام منى بما روى الدارقطني والترمذي نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفة ، فسألوه ، فأمر مناديا فنادى : ( الحج عرفة ، فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك ، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه ) . أن ناسا من أهل
وإن هذه الأيام يحرم الصوم فيها عند جمهور الفقهاء ; فقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " . أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله
[ ص: 632 ] فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى هذه الأيام هي التي يكون بعدها النفير إن كان قد أدى الحاج كل الأركان ، وقد بين القرآن الكريم أنه ; وهذا معنى الجملة الكريمة لا يلزم أن يبقى الأيام الثلاثة بمنى فإن شاء بقي يومين يرمي فيهما الجمرات ، ونفر قبل فجر اليوم الثالث ; وإن شاء بقي اليوم الثالث فمن تعجل في يومين أي سافر معجلا في اليومين الأولين فلا إثم عليه في التعجيل ومن تأخر فلا إثم عليه أي من بقي إلى تمام اليوم الثالث فلا إثم عليه .
وقد قيد الله سبحانه نفي الإثم بقوله لمن اتقى للإشارة إلى أن العبرة بتقوى القلوب فتلك الحركات الحسية من التزام مكان معين في زمان معين ، ورمي الجمار الثلاث لكل جمرة سبع حصيات ; كل هذا لا غاية له ، ولا ثمرة إلا تربية التقوى وتنميتها في القلوب ، لتتهذب النفس ، ويربى الوجدان ويخشى العبد الديان ، فيراقبه في كل الأفعال وكل الأقوال ، فيكون مجتمعا مهذبا كاملا صالحا قويا ; لأن تهذيب الآحاد تقوية لبناء الجماعة ، فلا تتنافر أجزاؤها ، ولا تتباعد آحادها ، وتقوم على تقوى من الله ورضوان .
وإن هذه الأيام التي يقوم فيها الحجيج بذلك الذكر في البقعة المباركة ، يشاركهم فيها المسلمون في كل بقاع الأرض في بعض أفعالهم ، وذكرهم ; فالحجيج ينحرون ليتحللوا ، وسائر المسلمين ينحرون ليضحوا ، ويشاركوا وفود الله في صدقاتهم ; والحجيج يكبرون ويرمون الجمار ، والمسلمون في الأمصار يشاركونهم في التكبير عقب الصلوات .
وقد اتفق الفقهاء على أن ; واقتصر المسلمين يسن لهم أن يكبروا عقب الصلوات من صبح يوم عرفة وهو اليوم التاسع إلى ما بعد صلاة العصر يوم عيد الأضحى على ذلك وتبع في ذلك أبو حنيفة ، ولكن عبد الله بن مسعود أبا يوسف مع جمهور الفقهاء على أن ومحمدا ، أي اليوم الثالث عشر من ذي [ ص: 633 ] الحجة ; وأن تكبير المسلمين جميعا إشعار لهم بأنهم جميعا مع الحجيج بقلوبهم وذكرهم ; وأن المجتمع الأكبر في حرم الله هو جمعهم أجمعين ، وأن أولئك الضيوف الذين حلوا في ساحة الكريم المنان هي وفودهم إلى ذلك المؤتمر الأكبر ، وأن المؤمنين مهما تتباعد الديار كلهم على قلب رجل واحد في رفع راية الإسلام ونشر مبادئه الفاضلة . التكبير لا ينتهي عقب صلاة عصر يوم النحر ، بل يستمر إلى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق
واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ختم الله سبحانه وتعالى آيات الحج التي أشار فيها إلى مناسكه ، وذكر فيها بعض أعمال الحجيج الواجبة فيها ، بهذه الجملة السامية ، وبذلك الأمر الجازم القاطع ، وهو الأمر المكون من عنصرين أحدهما : تقوى الله ، وثانيهما : العلم اليقيني بالحشر ، وأنه سيكون إلى رب العالمين ; وفي هذا إشارة إلى خلاصة التدين وثمرة العبادات بكل أنواعها وكل طرقها ، فإن لم تؤد أية عبادة إلى هذين الأمرين ، فهي صورة لا روح فيها ، وشكل لا ثمرة منه ، ، وإن نسي الشخص لغفلة في نفسه أو غفوة من عقله ; أو غشيان الضلال على قلبه - الحشر والحساب والعقاب والثواب فقد ضل ضلالا بعيدا . . إن فإن لم ترب العبادة قلبا خاشعا ، وعقلا خاضعا ، وهوى ممنوعا ، وترقبا خائفا ، فهي عبادة جوفاء ، فمن حسبها دنيا لا آخرة بعدها ، فقد خسر خسرانا مبينا ; خسر نفسه ، فضل وأضل ، وخسر حياته ففهمها أجلا محدودا لا غاية وراءها ، ولا سمو بعدها ، وخسر العزاء الروحي الذي يجعله يرضى بشدائد الحياة رجاء لما وراءها ; ولذلك قال الله تعالى : الإيمان باليوم الآخر هو لب الدين ، وهو الفاصل بين المهتدي والضال قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله
وفي الجزء الثاني من الأمر تهديد بالعقاب ، بعد الترغيب في الثواب ، وعند الله حسن المآب .
* * *