وقد اختلف العلماء في هذا المعنى . فالذي عليه المعظم هو ما ذكرناه ، وأن حياة الشهداء محققة . ثم منهم من يقول : ترد إليهم الأرواح في قبورهم فينعمون ، كما يحيا الكفار في قبورهم فيعذبون . وقال مجاهد : يرزقون من ثمر الجنة ، أي يجدون ريحها وليسوا فيها . وصار قوم إلى أن هذا مجاز ، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة . وهو كما يقال : ما مات فلان ، أي ذكره حي ; كما قيل :
موت التقي حياة لا فناء لها قد مات قوم وهم في الناس أحياء
فالمعنى أنهم يرزقون الثناء الجميل . وقال آخرون : أرواحهم في أجواف طير خضر وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون . وهذا هو الصحيح من الأقوال ; لأن ما صح به [ ص: 254 ] النقل فهو الواقع . وحديث ابن عباس نص يرفع الخلاف . وكذلك حديث ابن مسعود خرجه مسلم . وقد أتينا على هذا المعنى مبينا في كتاب " التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة " . والحمد للهوقد ذكرنا هناك الشهداء ، وأنهم مختلفو الحال . وأما من تأول في الشهداء أنهم أحياء بمعنى أنهم سيحيون فبعيد يرده القرآن والسنة ; فإن قوله تعالى : بل أحياء دليل على حياتهم ، وأنهم يرزقون ولا يرزق إلا حي . وقد قيل : إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة ; ويشركون في ثواب كل جهاد كان بعدهم إلى يوم القيامة ; لأنهم سنوا أمر الجهاد . نظيره قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا . على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى . وقيل : لأن أرواحهم تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة ، كأرواح الأحياء المؤمنين الذين باتوا على وضوء . وقيل : لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض . وقد ذكرنا هذا المعنى في " التذكرة " وأن الأرض لا تأكل الأنبياء والشهداء والعلماء والمؤذنين المحتسبين وحملة القرآن .
الثانية : إذا كان الشهيد حيا حكما فلا يصلى عليه ، كالحي حسا . وقد ; فذهب اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى غسل جميع الشهداء والصلاة عليهم ; إلا قتيل المعترك في قتال العدو خاصة ; لحديث والثوري جابر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ادفنوهم بدمائهم ) يعني يوم أحد ولم يغسلهم ، رواه . وروى البخاري أبو داود عن ابن عباس قال : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم . وبهذا قال أحمد وإسحاق والأوزاعي وداود بن علي وجماعة فقهاء الأمصار وأهل الحديث . وقال وابن علية سعيد بن المسيب والحسن : يغسلون . قال أحدهما : إنما لم تغسل شهداء أحد لكثرتهم والشغل عن ذلك . قال أبو عمر : ولم يقل بقول سعيد والحسن هذا أحد من فقهاء الأمصار إلا عبيد الله بن الحسن العنبري ، وليس ما ذكروا من الشغل عن غسل شهداء أحد علة ; لأن كل واحد منهم كان له ولي يشتغل به ويقوم بأمره . والعلة في ذلك - والله [ ص: 255 ] أعلم - ما جاء في الحديث في دمائهم ( أنها تأتي يوم القيامة كريح المسك ) فبان أن العلة ليست الشغل كما قال من قال في ذلك ، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر ، وإنما هي مسألة اتباع للأثر الذي نقله الكافة في قتلى أحد لم يغسلوا . وقد احتج بعض المتأخرين ممن ذهب مذهب الحسن بقوله عليه السلام في شهداء أحد . . قال : وهذا يدل على خصوصهم وأنه لا يشركهم في ذلك غيرهم . قال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة أبو عمر : وهذا يشبه الشذوذ ، والقول بترك غسلهم أولى ; لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتلى أحد وغيرهم . وروى أبو داود عن جابر قال : رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو . قال : ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الثالثة : وأما الصلاة عليهم فاختلف العلماء في ذلك أيضا ; فذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وداود إلى أنه لا يصلى عليهم ; لحديث جابر قال : أحد في ثوب واحد ثم يقول : ( أيهما أكثر أخذا للقرآن ) ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال : ( أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ) وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم . وقال فقهاء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى الكوفة والبصرة والشام : يصلى عليهم . ورووا آثارا كبيرة أكثرها مراسيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على حمزة وعلى سائر شهداء أحد .
الرابعة : وأجمع العلماء على أن الشهيد إذا حمل حيا ولم يمت في المعترك وعاش وأكل فإنه يصلى عليه ; كما قد صنع بعمر - رضي الله عنه - . واختلفوا فيمن قتل مظلوما كقتيل الخوارج وقطاع الطريق وشبه ذلك ; فقال أبو حنيفة : كل من قتل مظلوما لم يغسل ، ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد ; وهو قول سائر [ ص: 256 ] أهل والثوري العراق . ورووا من طرق كثيرة صحاح عن زيد بن صوحان ، وكان قتل يوم الجمل : لا تنزعوا عني ثوبا ولا تغسلوا عني دما . وثبت عن أنه قال مثل قول عمار بن ياسر زيد بن صوحان . وقتل بصفين ولم يغسله عمار بن ياسر علي . قولان : أحدهما - يغسل كجميع الموتى إلا من قتله أهل الحرب ; وهذا قول وللشافعي مالك . قال مالك : لا يغسل من قتله الكفار ومات في المعترك . وكل مقتول غير قتيل المعترك - قتيل الكفار - فإنه يغسل ويصلى عليه . وهذا قول - رضي الله عنه - . والقول الآخر أحمد بن حنبل - لا يغسل قتيل البغاة . وقول للشافعي مالك أصح ; فإن غسل الموتى قد ثبت بالإجماع ونقل الكافة . فواجب غسل كل ميت إلا من أخرجه إجماع أو سنة ثابتة . وبالله التوفيق .
الخامسة : العدو إذا صبح قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم فهل يكون حكمه حكم قتيل المعترك ، أو حكم سائر الموتى ; وهذه المسألة نزلت عندنا بقرطبة أعادها الله : أغار العدو - قصمه الله - صبيحة الثالث من رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة والناس في أجرانهم على غفلة ، فقتل وأسر ، وكان من جملة من قتل والدي رحمه الله ; فسألت شيخنا المقرئ الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي حجة فقال ; غسله وصل عليه ، فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصفين . ثم سألت شيخنا ربيع بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع بن أبي فقال : إن حكمه حكم القتلى في المعترك . ثم سألت قاضي الجماعة وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا : غسله وكفنه وصل عليه ; ففعلت . ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في " التبصرة " أبا الحسن علي بن قطرال لأبي الحسن اللخمي وغيرها . ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسلته ، وكنت دفنته بدمه في ثيابه .
السادسة : هذه الآية تدل على عظيم حتى إنه يكفر الذنوب ; كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه جبريل عليه السلام آنفا . قال علماؤنا ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم ، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات ، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد ، والقصاص في هذا كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به [ ص: 257 ] السنة الثابتة . روى القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين كذلك قال لي عبد الله بن أنيس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الشام - عراة غرلا بهما . قلنا : ما بهم ؟ قال : ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من قرب ومن بعد أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة . قال قلنا : كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة غرلا . قال : بالحسنات والسيئات . أخرجه يحشر الله العباد - أو قال الناس ، شك همام ، وأومأ بيده إلى الحارث بن أبي أسامة . وفي صحيح مسلم عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أبي هريرة . وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أتدرون من المفلس ) ؟ . قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : ( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) . وروى والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أبو هريرة ) . وقال نفس المؤمن معلقة ما كان عليه دين أحمد بن زهير : سئل عن هذا الحديث فقال : هو صحيح . فإن قيل : فهذا يدل على أن بعض الشهداء لا يدخلون الجنة من حين القتل ، ولا تكون أرواحهم في جوف طير كما ذكرتم ، ولا يكونون في قبورهم ، فأين يكونون ؟ قلنا : قد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يحيى بن معين فلعلهم هؤلاء ، والله أعلم . ولهذا قال أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا الإمام أبو محمد بن عطية : وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة يجمعها أنهم [ ص: 258 ] يرزقون . وقد أخرج الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه عن قال : سمعت سليم بن عامر أبا أمامة يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : . شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله عز وجل وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والدين
السابعة : - والله أعلم - هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوص به . أو قدر على الأداء فلم يؤده ، أو ادانه في سرف أو في سفه ومات ولم يوفه . وأما من ادان في حق واجب لفاقة وعسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله ; لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه ، إما من جملة الصدقات ، أو من سهم الغارمين ، أو من الفيء الراجع على المسلمين . قال - صلى الله عليه وسلم - : الدين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة . وقد زدنا هذا الباب بيانا في كتاب ( التذكرة ) والحمد لله . من ترك دينا أو ضياعا فعلى الله ورسوله ومن ترك مالا فلورثته
الثامنة : قوله تعالى : عند ربهم يرزقون فيه حذف مضاف تقديره عند كرامة ربهم . و " عند " هنا تقتضي غاية القرب ، فهي ك ( لدى ) ولذلك لم تصغر فيقال ! عنيد ; قال . فهذه عندية الكرامة لا عندية المسافة والقرب . سيبويه
و يرزقون هو الرزق المعروف في العادات . ومن قال : هي حياة الذكر قال : يرزقون الثناء الجميل . والأول الحقيقة . وقد قيل : إن الأرواح تدرك في تلك الحال التي يسرحون فيها من روائح الجنة وطيبها ونعيمها وسرورها ما يليق بالأرواح ; مما ترتزق وتنتعش به . وأما اللذات الجسمانية فإذا أعيدت تلك الأرواح إلى أجسادها استوفت من النعيم جميع ما أعد الله لها . وهذا قول حسن ، وإن كان فيه نوع من المجاز ، فهو الموافق لما اخترناه . والموفق الإله .
و فرحين نصب في موضع الحال من [ ص: 259 ] المضمر في يرزقون . ويجوز في الكلام " فرحون " على النعت لأحياء . وهو من الفرح بمعنى السرور . والفضل في هذه الآية هو النعيم المذكور . وقرأ ابن السميقع " فارحين " بالألف وهما لغتان ، كالفره والفاره ، والحذر والحاذر ، والطمع والطامع ، والبخل والباخل . قال النحاس : ويجوز في غير القرآن رفعه ، يكون نعتا لأحياء .
ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم المعنى لم يلحقوا بهم في الفضل ، وإن كان لهم فضل . وأصله من البشرة ; لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه . وقال قوله تعالى : . : يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه ، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا . وقال السدي قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم : استبشارهم بأنهم يقولون : إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم ، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه ; فيسرون ويفرحون لهم بذلك . وقيل : إن الإشارة بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم إلى جميع المؤمنين وإن لم يقتلوا ، ولكنهم لما عاينوا ثواب الله وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه ; فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . ذهب إلى هذا المعنى الزجاج . وابن فورك