[ ص: 343 ] فيه اثنتان وخمسون مسألة :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين قال قوله تعالى : : بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين . وقال سعيد بن المسيب ابن عباس : هذه الآية نزلت في السلم خاصة . معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية ، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا . وقال ابن خويزمنداد : إنها تضمنت ثلاثين حكما . وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض ، على ما قال مالك ، إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات . وخالف في ذلك الشافعية وقالوا : الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون ، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا ، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه .
الثانية : قوله تعالى : ( بدين ) تأكيد مثل قوله ولا طائر يطير بجناحيه . فسجد الملائكة كلهم أجمعون . عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان غائبا ، قال الشاعر : وحقيقة الدين
وعدتنا بدرهمينا طلاء وشواء معجلا غير دين
وقال آخر :لترم بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أوقدوا حطبا ونارا فذاك الموت نقدا غير دين
الثالثة : قوله تعالى : ( إلى أجل مسمى ) قال ابن المنذر : دل قول الله ( إلى أجل مسمى ) على أن غير جائز ، ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى . ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم السلم إلى الأجل المجهول المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم رواه قدم ابن عباس . أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما . وقال ابن عمر : . وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم الجائز أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف ، من طعام أرض عامة لا يخطئ مثلها . بكيل معلوم ، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة ، يدفع ثمن ما أسلم فيه قبل أن يفترقا من مقامهما الذي تبايعا فيه ، وسميا المكان الذي يقبض فيه الطعام . فإذا فعلا ذلك وكان جائز الأمر كان سلما صحيحا لا أعلم أحدا من أهل العلم يبطله . كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة . وحبل الحبلة : أن تنتج الناقة ثم تحمل التي [ ص: 344 ] نتجت . فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
قلت : وقال علماؤنا : إن جائز ، إذ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم . السلم إلى الحصاد والجذاذ والنيروز والمهرجان
الرابعة : حد علماؤنا رحمة الله عليهم فقالوا : هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم . فتقييده بمعلوم في الذمة يفيد التحرز من المجهول ، ومن السلم في الأعيان المعينة ، مثل الذي كانوا يستلفون في السلم المدينة حين قدم عليهم النبي عليه السلام فإنهم كانوا يستلفون في ثمار نخيل بأعيانها ، فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر ، إذ قد تخلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئا . وقولهم ( محصور بالصفة ) تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل ، كما لو أسلم في تمر أو ثياب أو حيتان ولم يبين نوعها ولا صفتها المعينة .
وقولهم ( بعين حاضرة ) تحرز من الدين بالدين . وقولهم ( أو ما هو في حكمها ) تحرز من اليومين والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليه ، فإنه يجوز تأخيره عندنا ذلك القدر ، بشرط وبغير شرط لقرب ذلك ، ولا يجوز اشتراطه عليها . ولم يجز ولا الكوفي تأخير رأس مال السلم عن العقد والافتراق ، ورأوا أنه كالصرف . ودليلنا أن البابين مختلفان بأخص أوصافهما ، فإن الصرف بابه ضيق كثرت فيه الشروط بخلاف السلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر . والله أعلم . الشافعي
وقولهم " إلى أجل معلوم " تحرز من السلم الحال فإنه لا يجوز على المشهور وسيأتي . ووصف الأجل بالمعلوم تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه .
الخامسة : السلم والسلف عبارتان عن معنى واحد وقد جاءا في الحديث ، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب ( السلم ) لأن السلف يقال على القرض . والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق ، مستثنى من نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك . وأرخص في السلم ؛ لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين ، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة ، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها [ ص: 345 ] لينفقه عليها ، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية ، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج ، فإن جاز حالا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة ، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة . والله أعلم .
السادسة : في المتفق عليها والمختلف فيها وهي تسعة : ستة في المسلم فيه ، وثلاثة في رأس مال السلم . أما الستة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذمة ، وأن يكون موصوفا ، وأن يكون مقدرا ، وأن يكون مؤجلا ، وأن يكون الأجل معلوما ، وأن يكون موجودا عند محل الأجل . وأما الثلاثة التي في رأس مال السلم فأن يكون معلوم الجنس ، مقدرا ، نقدا . وهذه الشروط الثلاثة التي في رأس المال متفق عليها إلا النقد حسب ما تقدم . قال شروط السلم : وأما الشرط الأول وهو أن يكون في الذمة فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة ؛ لأنه مداينة ، ولولا ذلك لم يشرع دينا ولا قصد الناس إليه ربحا ورفقا . وعلى ذلك القول اتفق الناس . بيد أن ابن العربي قال : لا يجوز السلم في المعين إلا بشرطين : أحدهما أن يكون قرية مأمونة ، والثاني أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخلة ، ولم يقل ذلك أحد سواه . وهاتان المسألتان صحيحتان في الدليل ؛ لأن التعيين امتنع في السلم مخافة المزابنة والغرر ، لئلا يتعذر عند المحل . وإذا كان الموضع مأمونا لا يتعذر وجود ما فيه في الغالب جاز ذلك ، إذ لا يتيقن ضمان العواقب على القطع في مسائل الفقه ، ولابد من احتمال الغرر اليسير ، وذلك كثير في مسائل الفروع ، تعدادها في كتب المسائل . وأما السلم في اللبن والرطب مع الشروع في أخذه فهي مسألة مدنية اجتمع عليها مالكا أهل المدينة ، وهي مبنية على قاعدة المصلحة ؛ لأن المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مياومة ويشق أن يأخذ كل يوم ابتداء ؛ لأن النقد قد لا يحضره ولأن السعر قد يختلف عليه ، وصاحب النخل واللبن محتاج إلى النقد ؛ لأن الذي عنده عروض لا يتصرف له . فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياسا على العرايا وغيرها من أصول الحاجات والمصالح . وأما الشرط الثاني وهو أن يكون موصوفا فمتفق عليه ، وكذلك الشرط الثالث . والتقدير يكون من ثلاثة أوجه : الكيل ، والوزن ، والعدد ، وذلك ينبني على العرف ، وهو إما عرف الناس وإما عرف الشرع . وأما الشرط الرابع وهو أن يكون مؤجلا فاختلف فيه ، فقال : يجوز السلم الحال ، ومنعه الأكثر من العلماء . قال الشافعي : واضطربت المالكية في تقدير الأجل حتى ردوه إلى يوم ، حتى قال بعض علمائنا : السلم الحال جائز . والصحيح أنه لا بد من الأجل فيه ؛ لأن المبيع على ضربين : معجل وهو العين ، ومؤجل . فإن كان حالا ولم يكن عند المسلم إليه فهو من باب : بيع ما ليس عندك ، فلا بد من الأجل حتى يخلص كل عقد على صفته وعلى شروطه ، [ ص: 346 ] وتتنزل الأحكام الشرعية منازلها . وتحديده عند علمائنا مدة تختلف الأسواق في مثلها . وقول الله تعالى ( إلى أجل مسمى ) وقوله عليه السلام : ( إلى أجل معلوم ) يغني عن قول كل قائل . ابن العربي
قلت : الذي أجازه علماؤنا من السلم الحال ما تختلف فيه البلدان من الأسعار ، فيجوز السلم فيما كان بينه وبينه يوم أو يومان أو ثلاثة . فأما في البلد الواحد فلا ؛ لأن سعره واحد ، والله أعلم . وأما الشرط الخامس وهو أن يكون الأجل معلوما فلا خلاف ، فيه بين الأمة ، لوصف الله تعالى ونبيه الأجل بذلك . وانفردمالك دون الفقهاء بالأمصار بجواز البيع إلى الجذاذ والحصاد ؛ لأنه رآه معلوما . وقد مضى القول في هذا عند قوله تعالى يسألونك عن الأهلة . وأما الشرط السادس وهو أن يكون موجودا عند المحل فلا خلاف فيه بين الأمة أيضا ، فإن انقطع المبيع عند محل الأجل بأمر من الله تعالى انفسخ العقد عند كافة العلماء .
السابعة : خلافا لبعض السلف ، لما رواه ليس من شرط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه عن البخاري محمد بن المجالد قال : عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي أوفى فقالا : سله هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة ؟ فقال عبد الله : كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم . قلت : إلى من كان أصله عنده ؟ قال : ما كنا نسألهم عن ذلك . ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى فسألته فقال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا ؟ وشرط بعثني أبو حنيفة وجود المسلم فيه من حين العقد إلى حين الأجل ، مخافة أن يطلب المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غررا ، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا : المراعى وجوده عند الأجل . وشرط الكوفيون أن يذكر موضع القبض فيما له حمل ومئونة وقالوا : السلم فاسد إذا لم يذكر موضع القبض . وقال والثوري الأوزاعي : هو مكروه . وعندنا لو سكتوا عنه لم يفسد العقد ، ويتعين موضع القبض ، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث ، لحديث ابن عباس فإنه ليس فيه ذكر المكان الذي يقبض فيه السلم ، ولو كان من شروطه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الكيل والوزن والأجل ، ومثله حديث ابن أبي أوفى .
الثامنة : روى أبو داود عن سعد - يعني الطائي - عن عطية بن سعد عن أبي سعيد [ ص: 347 ] الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . قال من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره أبو محمد عبد الحق بن عطية : هو العوفي ولا يحتج أحد بحديثه ، وإن كان الأجلة قد رووا عنه . قال مالك : الأمر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى فحل الأجل فلم يجد المبتاع عند البائع وفاء مما ابتاعه منه فأقاله ، أنه لا ينبغي له أن يأخذ منه إلا ورقه أو ذهبه أو الثمن الذي دفع إليه بعينه ، وأنه لا يشتري منه بذلك الثمن شيئا حتى يقبضه منه ، وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه أو صرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه فهو بيع الطعام قبل أن يستوفى . قال مالك : وقد . نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل أن يستوفى
التاسعة : قوله تعالى : فاكتبوه يعني الدين والأجل . ويقال : أمر بالكتابة ولكن المراد الكتابة والإشهاد ؛ لأن لا تكون حجة . ويقال : أمرنا بالكتابة لكيلا ننسى . وروى الكتابة بغير شهود في مسنده عن أبو داود الطيالسي حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى آخر الآية : إن أول من جحد آدم عليه السلام إن الله أراه ذريته فرأى رجلا أزهر ساطعا نوره فقال يا رب من هذا قال : هذا ابنك داود ، قال : يا رب فما عمره ؟ قال : ستون سنة ، قال : يا رب زده في عمره! فقال : لا إلا أن تزيده من عمرك ، قال : وما عمري ؟ قال : ألف سنة ، قال آدم فقد وهبت له أربعين سنة ، قال : فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه ملائكته فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة ، قال : إنه بقي من عمري أربعون سنة ، قالوا : إنك قد وهبتها لابنك داود ، قال : ما وهبت لأحد شيئا ، فأخرج الله تعالى الكتاب وشهد عليه ملائكته - في رواية : وأتم لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة . خرجه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل الترمذي أيضا . وفي قوله فاكتبوه إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبينة له ، المعربة عنه ، للاختلاف المتوهم بين المتعاملين ، المعرفة للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه . والله أعلم .
العاشرة : ذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها ، فرض بهذه الآية ، بيعا كان أو قرضا ، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود ، وهو اختيار الطبري . وقال : من ادان فليكتب ، ومن باع فليشهد . وقال ابن جريج الشعبي : كانوا يرون أن قوله : ( فإن أمن ) ناسخ لأمره بالكتب . وحكى نحوه ، وقاله ابن جريج ابن زيد ، وروي عن . وذهب أبي سعيد الخدري الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ ، ثم خففه الله تعالى بقوله : فإن أمن بعضكم بعضا . وقال الجمهور : الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب ، وإذا كان الغريم [ ص: 348 ] تقيا فما يضره الكتاب ، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق . قال بعضهم : إن أشهدت فحزم ، وإن ائتمنت ففي حل وسعة . ابن عطية : وهذا هو القول الصحيح . ولا يترتب نسخ في هذا ؛ لأن الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع ، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس .
الحادية عشرة : وليكتب بينكم كاتب بالعدل قال قوله تعالى : عطاء وغيره : واجب على الكاتب أن يكتب ، وقاله الشعبي ، وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب . : واجب مع الفراغ . وحذفت اللام من الأول وأثبتت في الثاني ؛ لأن الثاني غائب والأول للمخاطب . وقد ثبتت في المخاطب ، ومنه قوله تعالى : ( فلتفرحوا ) بالتاء . وتحذف في الغائب ، ومنه : السدي
محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شيء تبالا
الثالثة عشرة : الباء في قوله تعالى ( بالعدل ) متعلقة بقوله : ( وليكتب ) وليست متعلقة ب ( كاتب ) لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها . أما المنتصبون لكتبها فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين . قال مالك رحمه الله تعالى : ، لقوله تعالى : لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون وليكتب بينكم كاتب بالعدل .
قلت : فالباء على هذا متعلقة ب ( كاتب ) أي ليكتب بينكم كاتب عدل ، ف ( بالعدل ) في موضع الصفة .
[ ص: 349 ] الرابعة عشرة : ولا يأب كاتب أن يكتب نهى الله الكاتب عن الإباء واختلف الناس في قوله تعالى : ، فقال وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد الطبري والربيع : واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب . وقال الحسن : ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر على كاتب غيره ، فيضر صاحب الدين إن امتنع ، فإن كان كذلك فهو فريضة ، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره . : واجب عليه في حال فراغه ، وقد تقدم . وحكى السدي المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله ( ولا يأب ) منسوخ بقوله ولا يضار كاتب ولا شهيد .
قلت : هذا يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد كان وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان أن يكتب ، وكان لا يجوز له أن يمتنع حتى نسخه قوله تعالى : ولا يضار كاتب ولا شهيد وهذا بعيد ، فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من كان . ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها ؛ لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة ، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة . : والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذ حقه . وأبى يأبي شاذ ، ولم يجئ إلا قلى يقلى وأبى يأبى وغسى يغسى وجبى الخراج يجبى ، وقد تقدم . ابن العربي
الخامسة عشرة : : قوله تعالى : كما علمه الله فليكتب الكاف في ( كما ) متعلقة بقوله ( أن يكتب ) المعنى كتبا كما علمه الله . ويحتمل أن تكون متعلقة بما في قوله : ( ولا يأب ) من المعنى ، أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو وليفضل كما أفضل الله عليه . ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله ( أن يكتب ) ثم يكون كما علمه الله ابتداء كلام ، وتكون الكاف متعلقة بقوله ( فليكتب ) .
السادسة عشرة : وليملل الذي عليه الحق وهو المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه . والإملاء والإملال لغتان ، أمل وأملى ، فأمل لغة قوله تعالى : أهل الحجاز وبني أسد ، وتميم تقول : أمليت . وجاء القرآن باللغتين ، قال عز وجل : فهي تملى عليه بكرة وأصيلا . والأصل أمللت ، أبدل من اللام ياء لأنه أخف . فأمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء ؛ لأن الشهادة إنما تكون بسبب إقراره . وأمره تعالى بالتقوى فيما يمل ، ونهى عن أن [ ص: 350 ] يبخس شيئا من الحق . والبخس النقص . ومن هذا المعنى قوله تعالى : ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن .
السابعة عشرة : فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا قال بعض الناس : أي صغيرا . وهو خطأ فإن السفيه قد يكون كبيرا على ما يأتي بيانه . ( أو ضعيفا ) أي كبيرا لا عقل له . قوله تعالى : أو لا يستطيع أن يمل جعل الله الذي عليه الحق أربعة أصناف : مستقل بنفسه يمل ، وثلاثة أصناف لا يملون وتقع نوازلهم في كل زمن ، وكون الحق يترتب لهم في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك ، وهم السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل . فالسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها ، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج . والبذيء اللسان يسمى سفيها ؛ لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة . والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى ، قال الشاعر :
نخاف أن تسفه أحلامنا ويجهل الدهر مع الحالم
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
الثامنة عشرة : اختلف العلماء فيمن فقال بالحجر عليه يخدع في البيوع لقلة خبرته وضعف عقله فهل يحجر عليه أو لا أحمد وإسحاق . وقال آخرون : لا يحجر عليه . والقولان في المذهب ، والصحيح الأول ، لهذه الآية ، ولقوله في الحديث : ( ) . وإنما ترك الحجر عليه لقوله : ( يا نبي الله احجر على فلان ) . فأباح له البيع وجعله خاصا به ؛ لأن من يخدع في البيوع ينبغي أن يحجر عليه لا سيما إذا كان ذلك لخبل عقله . ومما يدل على الخصوصية ما رواه يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن يحيى بن حبان قال : هو جدي منقذ بن عمرو عثمان بن عفان رضي الله عنه حين فشا الناس وكثروا ، يبتاع البيع في السوق ويرجع به إلى أهله وقد غبن غبنا قبيحا ، فيلومونه ويقولون له تبتاع ؟ فيقول : أنا بالخيار ، إن رضيت أخذت وإن سخطت رددت ، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلني بالخيار ثلاثا . فيرد السلعة على صاحبها من الغد وبعد الغد ، فيقول : والله لا أقبلها ، قد أخذت سلعتي وأعطيتني دراهم ، قال فيقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلني بالخيار ثلاثا . فكان يمر الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول للتاجر : ويحك! إنه قد صدق ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان جعله بالخيار ثلاثا . أخرجه [ ص: 352 ] وكان رجلا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه ونازعته عقله ، وكان لا يدع التجارة ولا يزال يغبن ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : إذا بعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سلعة تبتاعها بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها . وقد كان عمر عمرا طويلا ، عاش ثلاثين ومائة سنة ، وكان في زمن . وذكره الدارقطني أبو عمر في الاستيعاب وقال : ذكره في التاريخ عن البخاري عياش بن الوليد عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : ( أو ضعيفا ) الضعيف هو المدخول العقل الناقص الفطرة العاجز عن الإملاء ، إما لعيه أو لخرسه أو جهله بأداء الكلام ، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا . والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير ، ووليه وصيه أو أبوه والغائب عن موضوع الإشهاد ، إما لمرض أو لغير ذلك من العذر . ووليه وكيله . وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء ، والأولى أنه ممن لا يستطيع . فهذه أصناف تتميز ، وسيأتي في " النساء " بيانها والكلام عليها إن شاء الله تعالى .
الموفية عشرين : قوله تعالى : فليملل وليه بالعدل ذهب الطبري إلى أن الضمير في ( وليه ) عائد على الحق وأسند في ذلك عن الربيع ، وعن ابن عباس . وقيل : هو عائد على الذي عليه الحق وهو الصحيح . وما روي عن ابن عباس لا يصح . وكيف تشهد البينة على شيء وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين! هذا شيء ليس في الشريعة . إلا أن يريد قائله : إن الذي لا يستطيع أن يمل لمرض أو كبر سن لثقل لسانه عن الإملاء أو لخرس ، وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه عن الإملاء لخرس ولي عند أحد العلماء ، مثل ما ثبت على الصبي والسفيه عند من يحجر عليه . فإذا كان كذلك فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز ، فإذا كمل الإملاء أقر به . وهذا معنى لم تعن الآية إليه : ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل لمرض ومن ذكر معه .
الحادية والعشرون : لما قال الله تعالى : وليملل الذي عليه الحق دل ذلك على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره ، فيقتضي ذلك في مقدار الدين والرهن قائم ، فيقول الراهن : رهنت بخمسين والمرتهن يدعي مائة ، فالقول قول الراهن والرهن قائم ، وهو مذهب أكثر الفقهاء : قبول قول الراهن مع يمينه إذا اختلف هو والمرتهن سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، واختاره ابن المنذر قال : لأن المرتهن مدع للفضل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : . وقال البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه مالك : القول قول المرتهن فيما بينه وبين [ ص: 353 ] قيمة الرهن ولا يصدق على أكثر من ذلك . فكأنه يرى أن الرهن ويمينه شاهد ، للمرتهن ، وقوله تعالى : وليملل الذي عليه الحق رد عليه . فإن الذي عليه الحق هو الراهن . وستأتي هذه المسألة . وإن قال قائل : إن الله تعالى جعل الرهن بدلا عن الشهادة والكتاب ، والشهادة دالة على صدق المشهود له فيما بينه وبين قيمة الرهن ، فإذا بلغ قيمته فلا وثيقة في الزيادة . قيل له : الرهن لا يدل على أن قيمته تجب أن تكون مقدار الدين ، فإنه ربما رهن الشيء بالقليل والكثير . نعم لا ينقص الرهن غالبا عن مقدار الدين ، فأما أن يطابقه فلا ، وهذا القائل يقول : يصدق المرتهن مع اليمين في مقدار الدين إلى أن يساوي قيمة الرهن . وليس العرف على ذلك فربما نقص الدين عن الرهن وهو الغالب ، فلا حاصل لقولهم هذا .
الثانية والعشرون : وإذا ثبت أن المراد الولي ففيه دليل على أن إقراره جائز على يتيمه ؛ لأنه إذا أملاه فقد نفذ قوله عليه فيما أملاه .
الثالثة والعشرون : فاسد إجماعا مفسوخ أبدا لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا . فإن وتصرف السفيه المحجور عليه دون إذن وليه ففيه خلاف يأتي بيانه في ( النساء ) إن شاء الله تعالى . تصرف سفيه ولا حجر عليه
الرابعة والعشرون : واستشهدوا شهيدين من رجالكم الاستشهاد طلب الشهادة . واختلف الناس هل هي فرض أو ندب ، والصحيح أنه ندب على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . قوله تعالى :
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : ( شهيدين ) رتب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود وجعل في كل فن شهيدين إلا في الزنا ، على ما يأتي بيانه في سورة ( النساء ) . وشهيد بناء مبالغة ، وفي ذلك دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه ، فكأنه إشارة إلى العدالة . والله أعلم .
السادسة والعشرون : قوله تعالى : من رجالكم نص في رفض الكفار والصبيان والنساء ، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم . وقال مجاهد : المراد الأحرار ، واختاره وأطنب فيه . وقد اختلف العلماء في القاضي أبو إسحاق ، فقال شهادة العبيد شريح وعثمان البتي وأحمد [ ص: 354 ] وإسحاق ، : شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا ، وغلبوا لفظ الآية . وقال وأبو ثور مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء : لا تجوز شهادة العبد ، وغلبوا نقص الرق ، وأجازها والشافعي الشعبي والنخعي في الشيء اليسير . والصحيح قول الجمهور ؛ لأن الله تعالى قال : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين وساق الخطاب إلى قوله من رجالكم فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون ، والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة . فإن قالوا : إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخرها . قيل لهم : هذا يخصه قوله تعالى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا على ما يأتي بيانه . وقوله من رجالكم دليل على أن الأعمى من أهل الشهادة لكن إذا علم يقينا ، مثل ما روي عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال : ترى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع . وهذا يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به ، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطئ . نعم يجوز له وطء امرأته إذا عرف صوتها ؛ لأن الإقدام على الوطء جائز بغلبة الظن ، فلو زفت إليه امرأة وقيل : هذه امرأتك وهو لا يعرفها جاز له وطؤها ، ويحل له قبول هدية جاءته بقول الرسول . ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف أو غصب لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه ؛ لأن سبيل الشهادة اليقين ، وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن ، ولذلك قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف : إذا علمه قبل العمى جازت الشهادة بعد العمى ، ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه كالغيبة والموت في المشهود عليه . فهذا مذهب هؤلاء . والذي يمنع أداء الأعمى فيما تحمل بصيرا لا وجه له ، وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض ، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلى الله عليه وسلم . ومن العلماء من قبل فيما طريقه الصوت ؛ لأنه رأى الاستدلال بذلك يترقى إلى حد اليقين ، ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصور والألوان . وهذا ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير . شهادة الأعمى
قلت : مذهب مالك في جائزة في الطلاق وغيره إذا عرف الصوت . قال شهادة الأعمى على الصوت ابن قاسم : قلت لمالك : فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط ولا يراه ، ، يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت ؟ قال : قال مالك : شهادته جائزة . وقال ذلك علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد وشريح الكندي والشعبي وعطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد وربيعة وإبراهيم النخعي ومالك والليث .
السابعة والعشرون : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين ، هذا قول الجمهور . ( فرجل ) رفع بالابتداء ، [ ص: 355 ] ( وامرأتان ) عطف عليه والخبر محذوف . أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما . ويجوز النصب في غير القرآن ، أي فاستشهدوا رجلا وامرأتين . وحكى قوله تعالى : : إن خنجرا فخنجرا . وقال قوم : بل المعنى فإن لم يكن رجلان ، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال . قال سيبويه ابن عطية : وهذا ضعيف ، فلفظ الآية لا يعطيه ، بل الظاهر منه قول الجمهور ، أي إن لم يكن المستشهد رجلين ، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما فليستشهد رجلا وامرأتين . فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية ، ولم يذكرها في غيرها ، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور ، بشرط أن يكون معهما رجل . وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها ؛ لأن الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها ، فجعل فيها التوثق تارة بالكتبة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان ، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال . ولا يتوهم عاقل أن قوله تعالى : إذا تداينتم بدين يشتمل على دين المهر مع البضع ، وعلى الصلح على دم العمد ، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين ، بل هي شهادة على النكاح . وأجاز العلماء شهادتهن منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة . وعلى مثل ذلك أجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة .
وقد اختلف العلماء في ، وهي : شهادة الصبيان في الجراح
الثامنة والعشرون : فأجازها مالك ما لم يختلفوا ولم يفترقوا . ولا يجوز أقل من شهادة اثنين منهم على صغير لكبير ولكبير على صغير . وممن كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح عبد الله بن الزبير . وقال مالك : وهو الأمر عندنا المجتمع عليه . ولم يجز ، الشافعي وأصحابه شهادتهم ، لقوله تعالى : وأبو حنيفة من رجالكم وقوله : ممن ترضون وقوله : ذوي عدل منكم وهذه الصفات ليست في الصبي .
التاسعة والعشرون : لما جعل الله سبحانه شهادة امرأتين بدل شهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه ، فكما له أن يحلف مع الشاهد عندنا ، وعند كذلك ، يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضية . وخالف في هذا الشافعي أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا وقالوا : إن الله سبحانه قسم الشهادة وعددها ، ولم يذكر الشاهد واليمين ، فلا يجوز القضاء به لأنه يكون قسما زائدا على ما قسمه الله ، وهذه زيادة على النص ، وذلك نسخ . وممن قال بهذا القول اليمين مع الشاهد الثوري والأوزاعي وعطاء وطائفة . قال بعضهم : [ ص: 356 ] الحكم باليمين مع الشاهد منسوخ بالقرآن . وزعم والحكم بن عتيبة عطاء أن أول من قضى به ، وقال : عبد الملك بن مروان الحكم : القضاء باليمين والشاهد بدعة ، وأول من حكم به معاوية . وهذا كله غلط وظن لا يغني من الحق شيئا ، وليس من نفى وجهل كمن أثبت وعلم وليس في قول الله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم الآية ، ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين مع الشاهد ولا أنه لا يتوصل إلى الحقوق ولا تستحق إلا بما ذكر فيها لا غير ، فإن ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطالب ، فإن ذلك يستحق به المال إجماعا وليس في كتاب الله تعالى ، وهذا قاطع في الرد عليهم . قال مالك : فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يقال له : أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه ؟ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه ، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق ، أن حقه لحق ، وثبت حقه على صاحبه . فهذا مما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان ، فبأي شيء أخذ هذا وفي أي كتاب الله وجده ؟ فمن أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد . قال علماؤنا : ثم العجب مع شهرة الأحاديث وصحتها بدعوا من عمل بها حتى نقضوا حكمه واستقصروا رأيه ، مع أنه قد عمل بذلك الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب ومعاوية وشريح - وكتب به إلى عماله - ، وعمر بن عبد العزيز وإياس بن معاوية وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزناد وربيعة ، ولذلك قال مالك : وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من عمل السنة ، أترى هؤلاء تنقض أحكامهم ، ويحكم ببدعتهم! هذا إغفال شديد ، ونظر غير سديد . روى الأئمة عن ابن عباس . قال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد : في الأموال خاصة ، رواه عمرو بن دينار سيف بن سليمان عن قيس بن سعد بن دينار عن ابن عباس . قال أبو عمر : هذا أصح إسناد لهذا الحديث ، وهو حديث لا مطعن لأحد في إسناده ، ولا خلاف بين أهل المعرفة بالحديث في أن رجاله ثقات . قال : يحيى القطان سيف بن سليمان ثبت ، ما رأيت أحفظ منه . وقال : هذا إسناد جيد ، النسائي سيف ثقة ، وقيس ثقة . وقد خرج مسلم حديث ابن عباس هذا . قال : أبو بكر البزار سيف بن سليمان ثقتان ، ومن بعدهما يستغنى عن ذكرهما لشهرتهما في الثقة والعدالة . ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد ، بل جاء عنهم القول به ، وعليه جمهور أهل العلم وقيس بن سعد بالمدينة . واختلف فيه عن عروة بن الزبير ، فقال وابن شهاب معمر : سألت الزهري عن اليمين مع الشاهد فقال : هذا شيء أحدثه الناس ، لا بد من شاهدين . وقد [ ص: 357 ] روي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين ، وبه قال مالك وأصحابه وأتباعه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الأثر ، وهو الذي لا يجوز عندي خلافه ، لتواتر الآثار به عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أهل المدينة قرنا بعد قرن . وقال مالك : في كل البلدان ، ولم يحتج في موطئه لمسألة غيرها . ولم يختلف عنه في القضاء باليمين مع الشاهد ولا عن أحد من أصحابه يقضى باليمين مع الشاهد بالمدينة ومصر وغيرهما ، ولا يعرف المالكيون في كل بلد غير ذلك من مذهبهم إلا عندنا بالأندلس ، فإن يحيى بن يحيى زعم أنه لم ير الليث يفتي به ولا يذهب إليه . وخالف يحيى في ذلك مع مخالفته السنة والعمل مالكا بدار الهجرة . ثم اليمين مع الشاهد زيادة حكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قول الله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم . وكنهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من السباع مع قوله : قل لا أجد . وكالمسح على الخفين ، والقرآن إنما ورد بغسل الرجلين أو مسحهما ، ومثل هذا كثير . ولو جاز أن يقال : إن القرآن نسخ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد ، لجاز أن يقال : إن القرآن في قوله عز وجل : وأحل الله البيع وحرم الربا وفي قوله : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ناسخ لنهيه عن المزابنة وبيع الغرر وبيع ما لم يخلق ، إلى سائر ما نهى عنه في البيوع ، وهذا لا يسوغ لأحد ؛ لأن السنة مبينة للكتاب . فإن قيل : إن ما ورد من الحديث قضية في عين فلا عموم . قلنا : بل ذلك عبارة عن تقعيد هذه القاعدة ، فكأنه قال : أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم باليمين مع الشاهد . ومما يشهد لهذا التأويل ما رواه أبو داود في حديث ابن عباس ، ومن جهة القياس والنظر أنا وجدنا اليمين أقوى من المرأتين ؛ لأنهما لا مدخل لهما في اللعان واليمين تدخل في اللعان . وإذا صحت السنة فالقول بها يجب ، ولا تحتاج السنة إلى ما يتابعها ؛ لأن من خالفها محجوج بها . وبالله التوفيق . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين في الحقوق
الموفية ثلاثين : إذا تقرر وثبت الحكم باليمين مع الشاهد ، فقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : ذلك في الأموال وما يتعلق بها دون حقوق الأبدان ، للإجماع على ذلك من كل قائل باليمين مع الشاهد . قال : لأن حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان ، بدليل قبول [ ص: 358 ] شهادة النساء فيها . وقد اختلف قول مالك في ؟ فيه روايتان : إحداهما أنه يجب به التخيير بين القود والدية . والأخرى أنه لا يجب به شيء ؛ لأنه من حقوق الأبدان . قال : وهو الصحيح . قال جراح العمد ، هل يجب القود فيها بالشاهد واليمين مالك في الموطأ : وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة ، وقاله . وقال عمرو بن دينار المازري : يقبل في المال المحض من غير خلاف ، ولا يقبل في النكاح والطلاق المحضين من غير خلاف . وإن كان مضمون الشهادة ما ليس بمال ، ولكنه يؤدي إلى المال ، كالشهادة بالوصية والنكاح بعد الموت ، حتى لا يطلب من ثبوتها إلا المال إلى غير ذلك ، ففي قبوله اختلاف ، فمن راعى المال قبله كما يقبله في المال ، ومن راعى الحال لم يقبله . وقال المهدوي : غير جائزة في قول عامة الفقهاء ، وكذلك في النكاح والطلاق في قول أكثر العلماء ، وهو مذهب شهادة النساء في الحدود مالك وغيرهما ، وإنما يشهدن في الأموال . وكل ما لا يشهدن فيه فلا يشهدن على شهادة غيرهن فيه ، كان معهن رجل أو لم يكن ، ولا ينقلن شهادة إلا مع رجل نقلن عن رجل وامرأة . ويقضى باثنتين منهن في كل ما لا يحضره غيرهن كالولادة والاستهلال ونحو ذلك . هذا كله مذهب والشافعي مالك ، وفي بعضه اختلاف .
الحادية والثلاثون : ممن ترضون من الشهداء في موضع رفع على الصفة لرجل وامرأتين . قال قوله تعالى : ابن بكير وغيره : هذه مخاطبة للحكام . ابن عطية : وهذا غير نبيل ، وإنما الخطاب لجميع الناس ، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام ، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض .
الثانية والثلاثون : لما قال الله تعالى : ممن ترضون من الشهداء دل على أن في الشهود من لا يرضى ، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم ، وذلك معنى زائد على الإسلام ، وهذا قول الجمهور . وقال أبو حنيفة : كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل وإن كان مجهول الحال . وقال شريح وعثمان البتي : هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا . وأبو ثور
قلت فعمموا الحكم ، ويلزم منه قبول إذا كان عدلا مرضيا وبه قال شهادة البدوي على القروي ومن وافقه ، وهو من رجالنا وأهل ديننا . وكونه بدويا ككونه من بلد آخر [ ص: 359 ] والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي ، قال الله تعالى : الشافعي ممن ترضون من الشهداء وقال تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم ف ( منكم ) خطاب للمسلمين . وهذا يقتضي قطعا أن يكون معنى العدالة زائدا على الإسلام ضرورة ؛ لأن الصفة زائدة ، على الموصوف ، وكذلك ممن ترضون مثله ، خلاف ما قال أبو حنيفة ، ثم لا يعلم كونه مرضيا حتى يختبر حاله ، فيلزمه ألا يكتفي بظاهر الإسلام . وذهب أحمد بن حنبل في رواية ومالك ابن وهب عنه إلى رد شهادة البدوي على القروي لحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة . والصحيح جواز شهادته إذا كان عدلا مرضيا ، على ما يأتي في " النساء " و " براءة " إن شاء الله تعالى . وليس في حديث لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية فرق بين القروي في الحضر أو السفر ، ومتى كان في السفر فلا خلاف في قبوله . أبي هريرة
قال علماؤنا : هي الاعتدال في الأحوال الدينية ، وذلك يتم بأن يكون مجتنبا للكبائر محافظا على مروءته وعلى ترك الصغائر ، ظاهر الأمانة غير مغفل . وقيل : صفاء السريرة واستقامة السيرة في ظن المعدل ، والمعنى متقارب . العدالة
الثالثة والثلاثون : لما كانت الشهادة ولاية عظيمة ومرتبة منيفة ، وهي قبول قول الغير على الغير ، شرط تعالى فيها الرضا والعدالة . فمن حكم الشاهد . أن تكون له شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها حتى تكون له مزية على غيره ، توجب له تلك المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله ، ويحكم بشغل ذمه المطلوب بشهادته . وهذا أدل دليل على جواز عند علمائنا على ما خفي من المعاني والأحكام . وسيأتي لهذا في سورة " يوسف " زيادة بيان إن شاء الله تعالى . وفيه ما يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام ، فربما تفرس في الشاهد غفلة أو ريبة فيرد شهادته لذلك . الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات
الرابعة والثلاثون : قال أبو حنيفة : يكتفى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود . وهذه مناقصة تسقط كلامه وتفسد عليه مرامه ؛ لأننا نقول : حق من الحقوق . فلا يكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود ، قاله . ابن العربي
الخامسة والثلاثون : وإذ قد شرط الله تعالى الرضا والعدالة في المداينة كما بينا فاشتراطها في النكاح أولى ، خلافا حيث قال : إن النكاح ينعقد . بشهادة فاسقين . [ ص: 360 ] فنفى الاحتياط المأمور به في الأموال عن النكاح ، وهو أولى لما يتعلق به من الحل والحرمة والحد والنسب . لأبي حنيفة
قلت : قول أبي حنيفة في هذا الباب ضعيف جدا ، لشرط الله تعالى الرضا والعدالة ، وليس يعلم كونه مرضيا بمجرد الإسلام ، وإنما يعلم بالنظر في أحواله حسب ما تقدم . ولا يغتر بظاهر قوله : أنا مسلم . فربما انطوى على ما يوجب رد شهادته ، مثل قوله تعالى : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه إلى قوله : والله لا يحب الفساد ، وقال : وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم الآية .
السادسة والثلاثون : أن تضل إحداهما قال أبو عبيد : معنى ( تضل ) تنسى . والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالا . ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال : ضل فيها . وقرأ حمزة " إن " بكسر الهمزة على معنى الجزاء ، والفاء في قوله : ( فتذكر ) جوابه ، وموضع الشرط وجوابه رفع على الصفة للمرأتين والرجل ، وارتفع " تذكر " على الاستئناف ، كما ارتفع قوله : ومن عاد فينتقم الله منه هذا قول . ومن فتح " أن " فهي مفعول له والعامل فيها محذوف . وانتصب " فتذكر " على قراءة الجماعة عطفا على الفعل المنصوب ب " أن " . قال سيبويه النحاس : ويجوز " تضل " بفتح التاء والضاد ، ويجوز ( تضل ) بكسر التاء وفتح الضاد . فمن قال : " تضل " جاء به على لغة من قال : ضللت تضل . وعلى هذا تقول تضل فتكسر التاء لتدل على أن الماضي فعلت . وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر " أن تضل " بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى ، وهكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني . وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة . تقول : أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما .
السابعة والثلاثون : قوله تعالى : ( فتذكر ) خفف الذال والكاف ابن كثير وأبو عمرو ، وعليه فيكون المعنى أن تردها ذكرا في الشهادة ؛ لأن شهادة المرأة نصف شهادة ، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر ، قاله سفيان بن عيينة . وفيه بعد ؛ إذ لا يحصل في مقابلة الضلال الذي معناه النسيان إلا الذكر ، وهو معنى قراءة الجماعة " فتذكر " بالتشديد ، أي تنبهها إذا غفلت ونسيت . وأبو عمرو بن العلاء
[ ص: 361 ] قلت : وإليها ترجع قراءة أبي عمرو ، أي إن تنس إحداهما فتذكرها الأخرى ، يقال : تذكرت الشيء وأذكرته وذكرته بمعنى ، قاله في الصحاح .
الثامنة والثلاثون : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا قال قوله تعالى : الحسن : جمعت هذه الآية أمرين ، وهما ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة ، ولا إذا دعيت إلى أدائها ، وقاله ابن عباس . وقال قتادة والربيع : أي لتحملها وإثباتها في الكتاب . وقال وابن عباس مجاهد : معنى الآية إذا دعيت إلى أداء شهادة وقد حصلت عندك . وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا ، قال مجاهد : فأما إذا دعيت لتشهد أولا فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا ، وقاله أبو مجلز وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم . وعليه فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين ، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود ، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحالة التي يجوز أن تراد بقوله تعالى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لإثبات الشهادة فإذا ثبتت شهادتهم ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو بحضورهما عند الحاكم ، على ما يأتي . وقال ابن عطية : والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب ، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب ، وله أن يتخلف لأدنى عذر ، وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له . وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب ، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها ، لا سيما إن كانت محصلة وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الظرف آكد ؛ لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء .
قلت : وقد يستخرج من هذه الآية دليل على أن جائزا ، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا لها ، وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت . فيكون المعنى ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا . والله أعلم . فإن قيل : هذه شهادة بالأجرة ، قلنا : إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال ، وذلك كأرزاق القضاة والولاة وجميع المصالح التي تعن للمسلمين وهذا من جملتها . والله أعلم . وقد قال تعالى : للإمام أن يقيم للناس شهودا ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم والعاملين عليها ففرض لهم .
التاسعة والثلاثون : لما قال تعالى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا دل على أن ، وهذا أمر بني عليه الشرع وعمل به في كل زمان وفهمته كل أمة ، ومن أمثالهم : " في بيته يؤتى الحكم " . الشاهد [ ص: 362 ] هو الذي يمشي إلى الحاكم
الموفية أربعين : وإذا ثبت هذا فالعبد خارج عن جملة الشهداء ، وهو يخص عموم قوله : من رجالكم لأنه لا يمكنه أن يجيب ، ولا يصح له أن يأتي ؛ لأنه لا استقلال له بنفسه ، وإنما يتصرف بإذن غيره ، فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منزل الولاية . نعم! وكما انحط عن فرض الجمعة والجهاد والحج ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
الحادية والأربعون : قال علماؤنا : هذا في حال الدعاء إلى الشهادة . فأما من ، فقال قوم : أداؤها ندب لقوله تعالى : كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقها الذي ينتفع بها ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ففرض الله الأداء عند الدعاء ، فإذا لم يدع كان ندبا ، لقوله عليه السلام : رواه الأئمة . والصحيح أن أداءها فرض وإن لم يسألها إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته ، أو بطلاق أو عتق على من أقام على تصرفه على الاستمتاع بالزوجة واستخدام العبد إلى غير ذلك ، فيجب على من تحمل شيئا من ذلك أداء تلك الشهادة ، ولا يقف أداؤها على أن تسأل منه فيضيع الحق ، وقد قال تعالى : خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها وأقيموا الشهادة لله وقال : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : . فقد تعين عليه نصره بأداء الشهادة التي له عنده إحياء لحقه الذي أماته الإنكار . انصر أخاك ظالما أو مظلوما
الثانية والأربعون : لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادة على أحد الأوجه التي ذكرناها فلم يؤدها أنها جرحة في الشاهد والشهادة ، ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين وهذا قول ابن القاسم وغيره . وذهب بعضهم إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جرحة في تلك الشهادة نفسها خاصة ، فلا يصلح له أداؤها بعد ذلك . والصحيح الأول ؛ لأن الذي يوجب جرحته إنما هو فسقه بامتناعه من القيام بما وجب عليه من غير عذر ، ، وهذا واضح . والفسق يسلب أهلية الشهادة مطلقا
[ ص: 363 ] الثالثة والأربعون : لا تعارض بين قوله عليه السلام : وبين قوله عليه السلام في حديث خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها عمران بن حصين : عمران : فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثا - ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن أخرجهما الصحيحان . وهذا الحديث محمول على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يراد به شاهد الزور ، فإنه يشهد بما لم يستشهد ، أي بما لم يتحمله ولا حمله . وذكر إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بباب الجابية فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كمقامي فيكم . ثم قال : . الوجه الثاني : أن يراد به الذي يحمله الشره على تنفيذ ما يشهد به ، فيبادر بالشهادة قبل أن يسألها ، فهذه شهادة مردودة ، فإن ذلك يدل على هوى غالب على الشاهد . الثالث ما قاله يا أيها الناس اتقوا الله في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب وشهادة الزور راوي طرق بعض هذا الحديث : كانوا ينهوننا ونحن غلمان عن العهد والشهادات . إبراهيم النخعي
الرابعة والأربعون : قوله تعالى : ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " تسأموا " ، معناه : تملوا . قال الأخفش : يقال سئمت أسأم سأما وسآمة وسآما وسأمة وسأما ، كما قال الشاعر :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا - لا أبا لك - يسأم
[ ص: 364 ] الخامسة والأربعون : قوله تعالى : ذلكم أقسط عند الله معناه أعدل ، يعني أن يكتب القليل والكثير ويشهد عليه . وأقوم للشهادة أي أصح وأحفظ . ( وأدنى ) ، معناه : أقرب . و ( ترتابوا ) تشكوا .
السادسة والأربعون : قوله تعالى : وأقوم للشهادة دليل على أن لا يؤديها لما دخل عليه من الريبة فيها ، ولا يؤدي إلا ما يعلم لكنه يقول : هذا خطي ولا أذكر الآن ما كتبت فيه . قال الشاهد إذا رأى الكتاب ولم يذكر الشهادة ابن المنذر : أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يمنع أن . واحتج يشهد الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة مالك على جواز ذلك بقوله تعالى : وما شهدنا إلا بما علمنا . وقال بعض العلماء : لما نسب الله تعالى الكتابة إلى العدالة وسعه أن يشهد على خطه وإن لم يتذكر . ذكر ابن المبارك عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قال : لا بأس أن يشهد إن وجد علامته في الصك أو خط يده . قال الرجل يشهد على شهادة فينساها ابن المبارك : استحسنت هذا جدا . وفيما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكم في أشياء غير واحدة بالدلائل والشواهد ، وعن الرسل من قبله ما يدل على صحة هذا المذهب . والله أعلم . وسيأتي لهذا مزيد بيان في ( الأحقاف ) إن شاء الله تعالى .
السابعة والأربعون : قوله تعالى : إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم . " أن " في موضع نصب استثناء ليس من الأول . قال الأخفش أبو سعيد : أي إلا أن تقع تجارة ، فكان بمعنى وقع وحدث . وقال غيره : ( تديرونها ) الخبر . وقرأ عاصم وحده ( تجارة ) ، على خبر كان واسمها مضمر فيها . ( حاضرة ) نعت لتجارة ، والتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة ، أو إلا أن تكون المبايعة تجارة ، هكذا قدره مكي ، وقد تقدم نظائره والاستشهاد عليه . ولما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه لا في كثير كالأملاك ونحوها . وقال وأبو علي الفارسي السدي والضحاك : هذا فيما كان يدا بيد .
الثامنة والأربعون : قوله تعالى : تديرونها بينكم يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض . ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا يقبل البينونة ولا يغاب عليه ، حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك مبايعة الدين ، فكان الكتاب توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب . فأما إذا تفاصلا في المعاملة وتقابضا وبان كل واحد منهما بما ابتاعه من [ ص: 365 ] صاحبه ، فيقل في العادة خوف التنازع إلا بأسباب غامضة . ونبه الشرع على هذه المصالح في حالتي النسيئة والنقد وما يغاب عليه وما لا يغاب ، بالكتاب والشهادة والرهن . قال : الشافعي : بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهان ، وبيع بأمانة ، وقرأ هذه الآية . وكان البيوع ثلاثة ابن عمر إذا باع بنقد أشهد ، وإذا باع بنسيئة كتب .
التاسعة والأربعون : وأشهدوا قال الطبري : معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره . واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو الندب ، فقال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي وابنه أبو بكر . هو على الوجوب ، ومن أشدهم في ذلك عطاء قال : أشهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث أو أقل من ذلك ، فإن الله عز وجل يقول : وأشهدوا إذا تبايعتم . وعن إبراهيم قال : أشهد إذا بعت وإذا اشتريت ولو دستجة بقل . وممن كان يذهب إلى هذا ويرجحه الطبري ، وقال : لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلا أن يشهد ، وإلا كان مخالفا كتاب الله عز وجل ، وكذا إن كان إلى أجل فعليه أن يكتب ويشهد إن وجد كاتبا . وذهب الشعبي والحسن إلى أن ذلك على الندب والإرشاد لا على الحتم . ويحكى أن هذا قول مالك وأصحاب الرأي . وزعم والشافعي أن هذا قول الكافة ، قال : وهو الصحيح . ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا ابن العربي الضحاك . قال وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم وكتب . قال : ونسخة كتابه : ( العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اشترى منه عبدا - أو أمة - لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم ) . وقد باع ولم يشهد ، واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد . ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة . بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما اشترى
قلت : قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك . وحديث العداء هذا أخرجه الدارقطني وأبو داود . وكان إسلامه بعد الفتح وحنين ، وهو القائل : قاتلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلم يظهرنا الله ولم ينصرنا ، ثم أسلم فحسن إسلامه . ذكره أبو عمر ، وذكر حديثه هذا ، وقال في آخره : قال الأصمعي : سألت عن الغائلة فقال : الإباق والسرقة والزنا ، وسألته [ ص: 366 ] عن الخبثة فقال : بيع أهل عهد المسلمين . وقال سعيد بن أبي عروبة الإمام أبو محمد بن عطية : والوجوب في ذلك قلق ، أما في الدقائق فصعب شاق ، وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستئلاف بترك الإشهاد ، وقد يكون عادة في بعض البلاد ، وقد يستحيي من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه ، فيدخل ذلك كله في الائتمان ويبقى ندبا ، لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا . وحكى الأمر بالإشهاد المهدوي والنحاس ومكي عن قوم أنهم قالوا : وأشهدوا إذا تبايعتم منسوخ بقوله : فإن أمن بعضكم بعضا وأسنده النحاس عن ، وأنه تلا أبي سعيد الخدري يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله : فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ، قال : نسخت هذه الآية ما قبلها . قال النحاس : وهذا قول الحسن والحكم . قال وعبد الرحمن بن زيد الطبري : وهذا لا معنى له ؛ لأن هذا حكم غير الأول ، وإنما هذا حكم من لم يجد كاتبا قال الله عز وجل : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا - أي فلم يطالبه برهن - فليؤد الذي اؤتمن أمانته . قال : ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول لجاز أن يكون قوله عز وجل : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط الآية ناسخا لقوله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية ولجاز أن يكون قوله عز وجل : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ناسخا لقوله عز وجل : فتحرير رقبة مؤمنة وقال بعض العلماء : إن قوله تعالى : فإن أمن بعضكم بعضا لم يتبين تأخر نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد ، بل وردا معا . ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة . قال : وقد روي عن ابن عباس أنه قال لما قيل له : إن آية الدين منسوخة قال : لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ قال : والإشهاد إنما جعل للطمأنينة ، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا ، منها الكتاب ، ومنها الرهن ، ومنها الإشهاد . ولا خلاف بين علماء الأمصار أن لا بطريق الوجوب . فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد . وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا وبرا وبحرا وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير ، ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه . الرهن مشروع بطريق الندب
قلت : هذا كله استدلال حسن ، وأحسن منه ما جاء من صريح السنة في ترك الإشهاد ، وهو ما خرجه عن الدارقطني طارق بن عبد الله المحاربي قال : ( أقبلنا في ركب من الربذة [ ص: 367 ] وجنوب الربذة : حتى نزلنا قريبا من المدينة ومعنا ظعينة لنا . فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه ، فقال : من أين أقبل القوم ؟ فقلنا : من الربذة وجنوب الربذة . قال : ومعنا جمل أحمر ، فقال : تبيعوني جملكم هذا ؟ فقلنا نعم . قال بكم ؟ قلنا : بكذا وكذا صاعا من تمر . قال : فما استوضعنا شيئا وقال : قد أخذته ، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا ، فتلاومنا بيننا وقلنا : أعطيتم جملكم من لا تعرفونه! فقالت الظعينة : لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم . ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه . فلما كان العشاء أتانا رجل فقال : السلام عليكم ، أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم ، وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا ، وتكتالوا حتى تستوفوا . قال : فأكلنا حتى شبعنا ، واكتلنا حتى استوفينا ) . وذكر الحديث الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خزيمة بن ثابت : أنا أشهد أنك قد بعته . فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال : ( بم تشهد ) ؟ فقال : بتصديقك يا رسول الله . قال : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين . أخرجه أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي ، الحديث . وفيه : فطفق الأعرابي يقول : هلم شاهدا يشهد أني بعتك - قال وغيره . النسائي
الموفية خمسين : ولا يضار كاتب ولا شهيد فيه ثلاثة أقوال : قوله تعالى :
الأول : لا يكتب الكاتب ما لم يمل عليه ، ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها . قاله الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم . وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المعنى لا يمتنع الكاتب أن يكتب ولا الشاهد أن يشهد . " ولا يضار " على هذين القولين أصله يضارر بكسر الراء ، ثم وقع الإدغام ، وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة . قال وعطاء النحاس : ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول ، قال : لأن بعده . وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم فالأولى أن تكون ، من شهد بغير الحق أو حرف في الكتابة أن يقال له : فاسق ، فهو أولى بهذا ممن سأل شاهدا أن يشهد وهو مشغول . وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق يضارر بكسر الراء الأولى .
وقال مجاهد والضحاك وطاوس وروي عن والسدي ابن عباس : معنى الآية ولا يضار كاتب ولا شهيد بأن يدعى الشاهد إلى الشهادة والكاتب إلى الكتب وهما مشغولان ، فإذا [ ص: 368 ] اعتذرا بعذرهما أخرجهما وآذاهما ، وقال : خالفتما أمر الله ، ونحو هذا من القول ، فيضر بهما . وأصل " يضار " على هذا يضارر بفتح الراء ، وكذا قرأ ابن مسعود " يضارر " بفتح الراء الأولى ، فنهى الله سبحانه عن هذا ؛ لأنه لو أطلقه لكان فيه شغل لهما عن أمر دينهما ومعاشهما . ولفظ المضارة ، إذ هو من اثنين ، يقتضي هذه المعاني . والكاتب والشهيد على القولين الأولين رفع بفعلهما ، وعلى القول الثالث رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله .
الحادية والخمسون : وإن تفعلوا يعني المضارة . فإنه فسوق بكم أي معصية ، عن . فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان ، وذلك من الكذب المؤذي في الأموال والأبدان ، وفيه إبطال الحق . وكذلك إذايتهما إذا كانا مشغولين معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله . وقوله ( بكم ) تقديره فسوق حال بكم . سفيان الثوري
الثانية والخمسون : قوله تعالى : واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه ، أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه ، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانا ، أي فيصلا يفصل به بين الحق والباطل ، ومنه قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا . والله أعلم .