[ ص: 70 ] فنادته الملائكة قرأ قوله تعالى : حمزة " فناداه " بالألف على التذكير ويميلانها لأن أصلها الياء ، ولأنها رابعة . وبالألف قراءة والكسائي ابن عباس ، وهو اختيار وابن مسعود أبي عبيد . وروي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال : كان عبد الله يذكر الملائكة في كل القرآن . قال أبو عبيد : نراه اختار ذلك خلافا على المشركين لأنهم قالوا : الملائكة بنات الله . قال النحاس : هذا احتجاج لا يحصل منه شيء ; لأن العرب تقول : قالت الرجال ، وقال الرجال ، وكذا النساء ، وكيف يحتج عليهم بالقرآن ، ولو جاز أن يحتج عليهم بالقرآن بهذا لجاز أن يحتجوا بقوله تعالى : وإذ قالت الملائكة ولكن الحجة عليهم في قوله عز وجل : أشهدوا خلقهم أي فلم يشاهدوا ، فكيف يقولون إنهم إناث فقد علم أن هذا ظن وهوى . وأما " فناداه " فهو جائز على تذكير الجمع ، " ونادته " على تأنيث الجماعة . قال مكي : والملائكة ممن يعقل في التكسير فجرى في التأنيث مجرى ما لا يعقل ، تقول : هي الرجال ، وهي الجذوع ، وهي الجمال ، وقالت الأعراب . ويقوي ذلك قوله : وإذ قالت الملائكة وقد ذكر في موضع آخر فقال : والملائكة باسطو أيديهم وهذا إجماع . وقال تعالى : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب فتأنيث هذا الجمع وتذكيره حسنان . وقال : ناداه السدي جبريل وحده ; وكذا في قراءة ابن مسعود . وفي التنزيل ينزل الملائكة بالروح من أمره يعني جبريل ، والروح الوحي . وجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع . وجاء في التنزيل الذين قال لهم الناس يعني نعيم بن مسعود ، على ما يأتي . وقيل : ناداه جميع الملائكة ، وهو الأظهر . أي جاء النداء من قبلهم .
قوله تعالى : وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك وهو قائم ابتداء وخبر يصلي في موضع رفع ، وإن شئت كان نصبا على الحال من المضمر . أن الله أي بأن الله . وقرأ حمزة " إن " أي قالت إن الله ; فالنداء بمعنى القول . والكسائي يبشرك بالتشديد قراءة أهل المدينة . وقرأ حمزة " يبشرك " مخففا ; وكذلك حميد بن القيس المكي إلا أنه كسر الشين وضم الياء وخفف الباء . قال الأخفش : هي ثلاث لغات بمعنى واحد . دليل الأولى هي قراءة الجماعة أن ما في القرآن من هذا من فعل ماض أو أمر فهو بالتثقيل ; كقوله تعالى : فبشر عبادي فبشره بمغفرة فبشرناها بإسحاق [ ص: 71 ] قالوا بشرناك بالحق . وأما الثانية وهي قراءة فهي من بشر يبشر وهي لغة عبد الله بن مسعود تهامة ; ومنه قول الشاعر :
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجاج يتلى كتابها
وقال آخر :وإذا رأيت الباهشين إلى الندى غبرا أكفهم بقاع ممحل
فأعنهم وابشر بما بشروا به وإذا هم نزلوا بضنك فانزل
يا أم عمرو أبشري بالبشرى موت ذريع وجراد عظلى
قوله تعالى : بيحيى كان اسمه في الكتاب الأول حيا ، وكان اسم سارة زوجة إبراهيم عليه السلام يسارة ، وتفسيره بالعربية لا تلد ، فلما بشرت بإسحاق قيل لها : سارة ، سماها بذلك جبريل عليه السلام . فقالت : يا إبراهيم لم نقص من اسمي حرف ؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل عليهما السلام . فقال : ( إن ذلك الحرف زيد في اسم ابن لها من أفضل الأنبياء اسمه حي وسمي بيحيى ) . ذكره النقاش . وقال قتادة : سمي بيحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان والنبوة . وقال بعضهم : سمي بذلك لأن الله تعالى أحيا به الناس بالهدى . وقال مقاتل : اشتق اسمه من اسم الله تعالى حي فسمي يحيى . وقيل : لأنه أحيا به رحم أمه .
مصدقا بكلمة من الله يعني عيسى في قول أكثر المفسرين . وسمي عيسى كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى التي هي " كن " فكان من غير أب . وقرأ أبو السمال العدوي ( بكلمة ) مكسورة الكاف ساكنة اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل كتف وفخذ . وقيل : سمي كلمة لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله تعالى . وقال أبو عبيد : معنى بكلمة من الله بكتاب من الله . قال : والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة ; كما روي أن الحويدرة ذكر لحسان فقال : لعن الله كلمته ، يعني قصيدته . وقيل غير هذا من الأقوال . والقول الأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر . و " يحيى " أول من آمن بعيسى عليهما السلام وصدقه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين ويقال بستة أشهر . وكانا ابني خالة ، فلما سمع زكريا شهادته قام إلى عيسى فضمه إليه وهو في خرقه . وذكر الطبري أن مريم لما حملت بعيسى [ ص: 72 ] حملت أيضا أختها بيحيى ; فجاءت أختها زائرة فقالت : يا مريم أشعرت أني حملت ؟ فقالت لها مريم : أشعرت أنت أني حملت ؟ فقالت لها : وإني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك . وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم . قال : فذلك قول السدي مصدقا بكلمة من الله . " ومصدقا " نصب على الحال .
وسيدا السيد : الذي يسود قومه وينتهى إلى قوله ، وأصله سيود يقال : فلان أسود من فلان ، أفعل من السيادة ; ففيه دلالة على جواز كما يجوز أن يسمى عزيزا أو كريما . وكذلك روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال تسمية الإنسان سيدا لبني قريظة : ( ) . وفي قوموا إلى سيدكم البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحسن : وكذلك كان ، فإنه لما قتل إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين علي - رضي الله عنه - بايعه أكثر من أربعين ألفا وكثير ممن تخلف عن أبيه وممن نكث بيعته ، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراءها من خراسان ، ثم سار إلى معاوية في أهل الحجاز والعراق وسار إليه معاوية في أهل الشام ; فلما تراءى الجمعان بموضع يقال له " مسكن " من أرض السواد بناحية الأنبار كره الحسن القتال لعلمه أن إحدى الطائفتين لا تغلب حتى تهلك أكثر الأخرى فيهلك المسلمون ; فسلم الأمر إلى معاوية على شروط شرطها عليه ، منها أن يكون الأمر له من بعد معاوية ، فالتزم كل ذلك معاوية فصدق قوله عليه السلام : ( إن ابني هذا سيد ) ولا أسود ممن سوده الله تعالى ورسوله . قال قتادة في قوله تعالى وسيدا قال : في العلم والعبادة . ابن جبير والضحاك : في العلم والتقى . مجاهد : السيد الكريم . ابن زيد : الذي لا يغلبه الغضب . وقال الزجاج : السيد الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير . وهذا جامع . وقال الكسائي : السيد من المعز المسن . وفي الحديث . قال : ثني من الضأن خير من السيد المعز
[ ص: 73 ]
سواء عليه شاة عام دنت له ليذبحها للضيف أم شاة سيد
وحصورا أصله من الحصر وهو الحبس . حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسني . قال ابن ميادة :
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا أن أحصرتك شغول
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار
وقماقم غلب الرقاب كأنهم جن لدى باب الحصير قيام
فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا كخافية الغراب الأسحم
ضروب بنصل السيف سوق سمانها إذا عدموا زادا فإنك عاقر