( فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ( 112 ) ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ( 113 ) )
هذا مثل أريد به أهل مكة ، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها آمن لا يخاف ، كما قال تعالى : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ) [ القصص : 57 ] [ ص: 608 ] وهكذا قال هاهنا : ( يأتيها رزقها رغدا ) أي : هنيئا سهلا ( من كل مكان فكفرت بأنعم الله ) أي : جحدت آلاء الله عليها ، وأعظم ذلك بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، كما قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ) [ إبراهيم : 28 ، 29 ] . ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما ، فقال : ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ) أي : ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ، ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، وذلك لما استعصوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوا إلا خلافه ، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم ، فأكلوا العلهز - وهو : وبر البعير ، يجعل بدمه إذا نحروه .
وقوله : ( والخوف ) وذلك بأنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، حين هاجروا إلى المدينة ، من سطوة سراياه وجيوشه ، وجعلوا كل ما لهم في سفال ودمار ، حتى فتحها الله عليهم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول الذي بعثه الله فيهم منهم ، وامتن به عليهم في قوله : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) [ آل عمران : 164 ] وقال تعالى : ( فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا [ يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ] ) [ الطلاق : 10 ، 11 ] الآية . وقوله : ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ) إلى قوله : ( ولا تكفرون ) [ البقرة : 151 ، 152 ] .
وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن ، وجاعوا بعد الرغد ، بدل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا ، ورزقهم بعد العيلة ، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم ، وسادتهم وقادتهم وأئمتهم .
وهذا الذي قلناه - من أن هذا المثل مضروب لمكة - قاله العوفي ، عن ابن عباس . وإليه ذهب مجاهد ، وقتادة . وحكاه ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم مالك عن الزهري رحمهم الله .
وقال ابن جرير : حدثني ، حدثنا ابن عبد الرحيم البرقي ابن أبي مريم ، حدثنا نافع بن زيد ، حدثنا عبد الرحمن بن شريح ، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه أنه سمع مشرح بن هاعان يقول : سمعت سليم بن عتر يقول : صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعثمان - رضي [ ص: 609 ] الله عنه - محصور ب المدينة ، فكانت تسأل عنه : ما فعل ؟ حتى رأت راكبين ، فأرسلت إليهما تسألهما ، فقالا قتل . فقالت حفصة : والذي نفسي بيده إنها القرية التي قال الله : ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله ) قال أبو شريح : وأخبرني عبيد الله بن المغيرة ، عمن حدثه : أنه كان يقول : إنها المدينة .