[ كعب عن تخلفه ] حديث
قال ابن إسحاق : فذكر ، عن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك : أن أباه عبد الله ، وكان قائد أبيه حين أصيب بصره ، قال : سمعت أبي يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كعب بن مالك تبوك ، وحديث صاحبيه ، قال : ما تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط ، غير أني كنت قد تخلفت عنه في غزوة بدر ، وكانت غزوة لم يعاتب الله ولا رسوله أحدا تخلف عنها ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة ، وحين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها .
قال : كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه [ ص: 532 ] في تلك الغزوة ، ووالله ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ، واستقبل غزو عدو كثير ، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد ، والمسلمون من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ ، يعني بذلك الديوان ، يقول : لا يجمعهم ديوان مكتوب .
قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ذلك ، ما لم ينزل فيه وحي من الله ، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار وأحبت الظلال ، فالناس إليها صعر ؛ فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتجهز المسلمون معه ، وجعلت أغدو لأتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض حاجة ، فأقول في نفسي ، أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر الناس بالجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا ، والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا ، فقلت : أتجهز بعده بيوم أو يومين ، ثم ألحق بهم ، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا ، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا ، وتفرط الغزو ، فهممت أن أرتحل ، فأدركهم ، وليتني فعلت ، فلم أفعل ، وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطفت فيهم ، يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ؟ كعب بن مالك فقال رجل من ما فعل بني سلمة :
يا رسول الله ، حبسه برداه ، والنظر في عطفيه ؛ فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 533 ] فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك ، حضرني بثي ، فجعلت أتذكر الكذب وأقول :
بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي ؛ فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل ، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق ، فأجمعت أن أصدقه ، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد ، فركع فيه ركعتين ، ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك ، جاءه المخلفون ، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم ، ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت فسلمت عليه ، فتبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي :
تعاله ، فجئت أمشي ، حتى جلست بين يديه ، فقال لي :
قال : قلت : إني يا رسول الله ، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا ، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا ، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذبا لترضين عني ، وليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك حديثا صدقا تجد علي فيه ، إني لأرجو عقباي من الله فيه ، ولا والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . ما خلفك ؟ ألم تكن ابتعت ظهرك ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . فقمت ، وثار معي رجال من أما هذا فقد صدقت فيه ، فقم حتى يقضي الله فيك بني سلمة ، فاتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون ، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك فوالله ما زالوا بي حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكذب نفسي ، ثم قلت لهم : هل لقى هذا أحد غيري ؟
قالوا : نعم ، رجلان قالا مثل مقالتك ، وقيل لهما مثل ما قيل [ ص: 534 ] لك ؛ قلت : من هما ؟
قالوا : مرارة بن الربيع العمري ، من بني عمرو بن عوف ، وهلال بن ( أبي ) أمية الواقفي ؛ فذكروا لي رجلين صالحين ، فيهما أسوة ، فصمت حين ذكروهما لي ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة ، من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس ، وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي نفسي والأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا ، وقعدا في بيوتهما ، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج ، وأشهد الصلوات مع المسلمين ، وأطوف بالأسواق ، ولا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي ، هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟
ثم أصلي قريبا منه ، فأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، وإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين ، مشيت حتى تسورت جدار حائط . وهو ابن عمي ، وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه ، فوالله ما رد علي السلام ، فقلت : يا أبي قتادة أبا قتادة ، أنشدك بالله ، هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت . فعدت فناشدته ، فسكت عني ، فعدت فناشدته ، فسكت عني ، فعدت فناشدته ، فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي ، ووثبت فتسورت الحائط ، ثم غدوت إلى السوق ، فبينا أنا أمشي بالسوق ، إذا نبطي يسأل عني من نبط الشام ، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة ، يقول : من يدل علي ؟ قال : فجعل الناس يشيرون له إلي ، حتى جاءني ، فدفع إلي كتابا من ملك كعب بن مالك غسان ، وكتب كتابا في سرقة من حرير ، فإذا فيه :
أما بعد ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق [ ص: 535 ] بنا نواسك . قال : قلت حين قرأتها : وهذا من البلاء أيضا ، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك . قال : فعمدت بها إلى تنور ، فسجرته بها .
فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله يأتيني ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ، قال : قلت : أطلقها أم ماذا ، قال : لا ، بل اعتزلها ولا تقربها ، وأرسل إلي صاحبي بمثل ذلك ، فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك ، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض .
قال : وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له ، أفتكره أن أخدمه ؟ قال : لا ، ولكن لا يقربنك ؛ قالت : والله يا رسول الله ما به من حركة إلي ، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ، ولقد تخوفت على بصره .
قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله لامرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه ؛ قال : فقلت : والله لا استأذنه فيها ، ما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي في ذلك إذا استأذنته فيها ، وأنا رجل شاب .
قال : فلبثنا بعد ذلك عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلة ، من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا ، ثم صليت الصبح ، صبح خمسين ليلة ، على ظهر بيت من بيوتنا ، على الحال التي ذكر الله منا ، قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت ، وضاقت علي نفسي ، وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع ، فكنت أكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أوفى على ظهر سلع يقول بأعلى صوته : يا ، أبشر ، قال : فخررت ساجدا ، وعرفت أن قد جاء الفرج . كعب بن مالك