وقال الحافظ في كتابه هواتف الجان : حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي علي بن حرب حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عمرو بن بكر - هو ابن بكار القعنبي - عن أحمد بن القاسم عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن قال : لما ظهر عبد الله بن عباس سيف بن ذي يزن - قال ابن المنذر : واسمه النعمان بن قيس - على الحبشة ، وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ، أتته وفود العرب وشعراؤها ، تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من حسن بلائه ، وأتاه فيمن أتاه وفد قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم ، وأمية بن عبد شمس ، وعبد الله بن جدعان ، وخويلد بن أسد في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء فإذا هو في رأس غمدان الذي ذكره أمية بن أبي الصلت
[ ص: 555 ]
واشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا في رأس غمدان دارا منك محلالا
فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم فأذن لهم فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام فقال له : إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك . فقال له عبد المطلب : إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا ، وأنبتك منبتا طابت أرومته ، وعزت جرثومته ، وثبت أصله ، وبسق فرعه ، في أكرم موطن وأطيب معدن فأنت - أبيت اللعن - ملك العرب ، وربيعها الذي تخصب به البلاد ، ورأس العرب الذي له تنقاد ، وعمودها الذي عليه العماد ، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد ، وسلفك خير سلف ، وأنت لنا منهم خير خلف فلن يخمد من هم سلفه ، ولن يهلك من أنت خلفه ، ونحن أيها الملك أهل حرم الله ، وسدنة بيته أشخصنا إليك الذي أبهجنا من كشفك الكرب الذي قد فدحنا ، وفد التهنئة لا وفد المرزئة . قال : وأيهم أنت أيها المتكلم ؟ قال : أنا عبد المطلب بن هاشم . قال : ابن أختنا ؟ قال : نعم . قال : ادن . فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال : مرحبا وأهلا وناقة ورحلا ومستناخا سهلا ، وملكا ربحلا يعطي عطاء جزلا ، قد سمع الملك مقالتكم ، وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم فأنتم أهل [ ص: 556 ] الليل والنهار ، ولكم الكرامة ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم ، ثم أنهضوا إلى دار الكرامة والوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف .ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلسه وأخلاه ، ثم قال : يا عبد المطلب إني مفض إليك من سر علمي ، ما أن لو يكون غيرك لم أبح به ، ولكني رأيتك معدنه; فأطلعتك طليعه فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره : إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا ، واحتجبناه دون غيرنا خيرا عظيما ، وخطرا جسيما فيه شرف الحياة ، وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة .
فقال عبد المطلب : أيها الملك مثلك سر وبر فما هو ؟ فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر . قال : إذا ولد مولود بتهامة ، غلام به علامة ، بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة . قال عبد المطلب : أبيت اللعن ، قد أبت بخير ما آب به وافد ، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه; لسألته من ساره إياي ما أزداد به سرورا . قال ابن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه ، أو قد ولد واسمه محمد يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه ، ولدناه مرارا والله باعثه جهارا ، وجاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه ، ويذل بهم أعداءه ، ويضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم الأرض يكسر [ ص: 557 ] الأوثان ، ويخمد النيران ، ويعبد الرحمن ويدحر الشيطان ، قوله فصل وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله .
فقال عبد المطلب : أيها الملك عز جدك ، وعلا كعبك ، ودام ملكك ، وطال عمرك ، فهذا نجاري فهل الملك سارني بإفصاح ، فقد وضح لي بعض الإيضاح . فقال ابن ذي يزن : والبيت ذي الحجب والعلامات على النقب ، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب . فخر عبد المطلب ساجدا فقال : ارفع رأسك ثلج صدرك ، وعلا أمرك فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك ؟ فقال : أيها الملك كان لي ابن وكنت به معجبا ، وعليه رفيقا فزوجته كريمة من كرائم قومه آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سميته محمدا فمات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه . قال ابن ذي يزن : إن الذي قلت لك كما قلت فاحتفظ بابنك ، واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا ، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك; فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة فيطلبون له الغوائل ، وينصبون له الحبائل فهم فاعلون أو أبناؤهم ، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه; لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير يثرب دار ملكي فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره ، وأهل [ ص: 558 ] نصرته ، وموضع قبره ، ولولا أني أقيه الآفات ، وأحذر عليه العاهات لأعلنت - على حداثة سنه - أمره ، ولأوطأت على أسنان العرب عقبه ، ولكني صادف ذلك إليك ، عن غير تقصير بمن معك قال : ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء ، وبمائة من الإبل ، وحلتين من البرود ، وبخمسة أرطال من الذهب وعشرة أرطال فضة ، وكرش مملوء عنبرا ، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك ، وقال له : إذا حال الحول فأتني فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول . فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد ، ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره وفخره وشرفه . فإذا قيل له متى ذلك ؟ قال : سيعلم ولو بعد حين . قال : وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس
جلبنا النصح تحقبه المطايا على أكوار أجمال ونوق
مغلغلة مراتعها تعالى إلى صنعاء من فج عميق
تؤم بنا ابن ذي يزن ويغري بذات بطونها ذم الطريق
وترعى من مخائله بروقا مواصلة الوميض إلى بروق
[ ص: 559 ] فلما واقعت صنعاء حلت بدار الملك والحسب العتيق
وقال أبو بكر الخرائطي : حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القلوسي حدثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية أخبرني أبي عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية عن جده أبي سوية عن أبيه خليفة قال : سألت محمد [ ص: 560 ] بن عثمان بن ربيعة بن سواة بن خثعم بن سعد فقلت : كيف سماك أبوك محمدا ؟ فقال : سألت أبي عما سألتني عنه فقال : خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا منهم وسفيان بن مجاشع بن دارم وأسامة بن مالك بن جندب بن العقيد ويزيد بن ربيعة بن كنانة بن حربوص بن مازن ، ونحن نريد ابن جفنة ملك غسان فلما شارفنا الشام نزلنا على غدير عليه شجرات فتحدثنا فسمع كلامنا راهب فأشرف علينا فقال : إن هذه لغة ما هي بلغة هذه البلاد قلنا : نعم نحن قوم من مضر قال : من أي المضريين ؟ قلنا : من خندف قال : أما إنه سيبعث وشيكا نبي خاتم النبيين فسارعوا إليه ، وخذوا بحظكم منه ترشدوا فقلنا له : ما اسمه ؟ قال : اسمه محمد قال : فرجعنا من عند ابن جفنة فولد لكل واحد منا ابن فسماه محمدا يعني أن كل واحد منهم طمع في أن يكون هذا النبي المبشر به ولده .
وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي : حدثنا عبد الله بن أبي سعد حدثنا حازم بن عقال بن الزهر بن حبيب بن المنذر بن أبي الحصين بن السموءل بن عادياء حدثني جابر بن حيران بن جميع بن عثمان بن سماك بن الحصين بن السموءل بن عادياء قال : لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاة اجتمع إليه قومه من غسان فقالوا : إنه قد حضرك من [ ص: 561 ] أمر الله ما ترى ، وكنا نأمرك بالتزوج في شبابك فتأبى . وهذا أخوك الخزرج له خمسة بنين ، وليس لك ولد غير مالك فقال : لن يهلك هالك ترك مثل مالك إن الذي يخرج النار من الوثيمة ، قادر أن يجعل لمالك نسلا ورجالا بسلا ، وكل إلى الموت . ثم أقبل على مالك ، وقال : أي بني المنية ولا الدنية ، العقاب ولا العتاب ، التجلد ولا التلدد ، القبر خير من الفقر ، إنه من قل ذل ، ومن كر فر ، ومن كرم الكريم الدفع عن الحريم والدهر يومان; فيوم لك ويوم عليك ، فإذا كان لك فلا تبطر ، وإذا كان عليك فاصطبر ، وكلاهما سينحسر ليس يفلت منهما الملك المتوج ولا اللئيم المعلهج ، سلم ليومك حيال ربك . ثم أنشأ يقول :
شهدت السبايا يوم آل محرق وأدرك عمري صيحة الله في الحجر
فلم أر ذا ملك من الناس واحدا ولا سوقة إلا إلى الموت والقبر
فعل الذي أردى ثمودا وجرهما سيعقب لي نسلا على آخر الدهر
تقر بهم من آل عمرو بن عامر عيون لدى الداعي إلى طلب الوتر
فإن لم تك الأيام أبلين جدتي وشيبن رأسي والمشيب مع العمر
[ ص: 562 ] فإن لنا ربا علا فوق عرشه عليما بما يأتي من الخير والشر
ألم يأت قومي أن لله دعوة يفوز بها أهل السعادة والبر
إذا بعث المبعوث من آل غالب بمكة فيما بين مكة والحجر
هنالك فابغوا نصره ببلادكم بني عامر إن السعادة في النصر