الأسود العنسي قصة
قال سيف بن عمر التميمي : حدثنا المستنير بن يزيد النخعي ، عن عروة بن غزية ، عن الضحاك بن فيروز الديلمي ، عن أبيه ، قال : أول ردة كانت في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد عبهلة بن كعب ، وهو الأسود ، في عامة مذحج : خرج بعد حجة الوداع ، وكان شعباذا يريهم الأعاجيب ، ويسبي قلوب من يسمع منطقه ، فوثب هو ومذحج بنجران إلى أن سار إلى صنعاء فأخذها ، ولحق بفروة من تم على إسلامه ، ولم يكاتب الأسود رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن معه أحد يشاغبه ، وصفا له ملك اليمن .
فروى سيف عن سهل بن يوسف ، عن أبيه ، عن عبيد بن صخر ، قال : بينما نحن بالجند قد أقمناهم على ما ينبغي ، وكتبنا [ ص: 29 ] بيننا وبينهم الكتب ، إذ جاءنا كتاب من الأسود أن أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا ، ووفروا ما جمعتم فنحن أولى به ، وأنتم على ما أنتم عليه ، فبينا نحن ننظر في أمرنا إذ قيل : هذا الأسود بشعوب ، وقد خرج إليه شهر بن باذام ، ثم أتانا الخبر أنه قتل شهرا وهزم الأبناء ، وغلب على صنعاء بعد نيف وعشرين ليلة ، وخرج معاذ هاربا حتى مر بأبي موسى الأشعري بمأرب ، فاقتحما حضرموت .
وغلب الأسود على ما بين أعمال الطائف إلى البحرين وغير ذلك ، وجعل يستطير استطارة الحريق ، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهرا ، وكان قواده : قيس بن عبد يغوث ، ويزيد بن مخزوم ، وفلان ، وفلان ، واستغلظ أمره وغلب على أكثر اليمن ، وارتد معه خلق ، وعامله المسلمون بالتقية . وكان خليفته في مذحج عمرو بن معد يكرب ، وأسند أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث ، وأمر الأبناء إلى فيروز الديلمي ، وذادويه . فلما أثخن في الأرض استخف بهؤلاء ، وتزوج امرأة شهر ، وهي بنت عم فيروز ، قال : فبينا نحن كذلك بحضرموت ولا نأمن أن يسير إلينا الأسود ، وقد تزوج معاذ في السكون ، إذ جاءتنا كتب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا فيها أن نبعث الرجال لمجاولته ومصاولته ، فقام معاذ في ذلك ، فعرفنا القوة ووثقنا بالنصر .
وقال سيف : حدثنا المستنير ، عن عروة ، عن الضحاك بن فيروز ، عن جشنس بن الديلمي ، قال : قدم علينا وبر بن يحنس [ ص: 30 ] بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا فيه بالنهوض في أمر الأسود ، فرأينا أمرا كثيفا ، ورأينا الأسود قد تغير لقيس بن عبد يغوث ، فأخبرنا قيسا وأبلغناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما وقعنا عليه ، فأجابنا وجاء وبر ، وكاتبنا الناس ودعوناهم ، فأخبر الأسود شيطانه ، فأرسل إلى قيس ، فقال : ما يقول الملك ؟ قال : يقول : عمدت إلى قيس فأكرمته ، حتى إذا دخل منك كل مدخل مال ميل عدوك . فحلف له وتنصل ، فقال : أتكذب الملك ؟ قد صدق وعرفت أنك تائب . قال : فأتانا قيس وأخبرنا ، فقلنا : كن على حذر ، وأرسل إلينا الأسود : ألم أشرفكم على قومكم ، ألم يبلغني عنكم ؟ فقلنا : أقلنا مرتنا هذه ، فقال : فلا يبلغني عنكم فأقتلكم . فنجونا ولم نكد ، وهو في ارتياب من أمرنا . قال : فكاتبنا عامر بن شهر ، وذو الكلاع ، وذو ظليم ، فأمرناهم أن لا يتحركوا بشيء ، قال : فدخلت على امرأته آزاد ، فقلت : يا بنة عم قد عرفت بلاء هذا الرجل ، وقتل زوجك وقومك وفضح النساء ، فهل من ممالاة عليه ؟ قالت : ما خلق الله أبغض إلي منه ، ما يقوم لله على حق ، ولا ينتهي عن حرمة . فخرجت فإذا فيروز وزادويه ينتظراني ، وجاء قيس ونحن نريد أن نناهضه ، فقال له رجل قبل أن يجلس : الملك يدعوك . فدخل في عشرة فلم يقدر على قتله معهم ، وقال : أنا عبهلة أمني تتحصن بالرجال ؟ ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذب ، تريد قتلي فقال : كيف وأنت رسول الله ، فمرني بما أحببت ، فأما الخوف والفزع فأنا فيهما فاقتلني وأرحني . فرق له وأخرجه ، فخرج علينا ، وقال : اعملوا عملكم . وخرج علينا الأسود في جمع ، فقمنا له ، وبالباب مائة بقرة وبعير فنحرها ، ثم قال : أحق ما [ ص: 31 ] بلغني عنك يا فيروز ، لقد هممت بقتلك . فقال : اخترتنا لصهرك وفضلتنا على الأبناء ، وقد جمع لنا أمر آخرة ودنيا ، فلا تقبلن علينا أمثال ما يبلغك . فقال : اقسم هذه . فجعلت آمر للرهط بالجزور ولأهل البيت بالبقرة . ثم اجتمع بالمرأة ، فقالت : هو متحرز ، والحرس محيطون بالقصر سوى هذا الباب فانقبوا عليه ، وهيأت لنا سراجا . وخرجت فتلقاني الأسود خارجا من القصر ، فقال : ما أدخلك ؟ ووجأ رأسي فسقطت ، فصاحت المرأة وقالت : ابن عمي زارني . فقال : اسكتي لا أبا لك ، فقد وهبته لك . فأتيت أصحابي وقلت : النجاء ، وأخبرتهم الخبر ، فأنا على ذلك إذا جاءني رسولها : لا تدعن ما فارقتك عليه . فقلنا لفيروز : ائتها وأتقن أمرنا ، وجئنا بالليل ودخلنا ، فإذا سراج تحت جفنة ، فاتقينا بفيروز وكان أنجدنا ، فلما دنا من البيت سمع غطيطا شديدا ، وإذا المرأة جالسة ، فلما قام فيروز على الباب أجلس الأسود شيطانه وكلمه ، فقال : وأيضا فما لي ولك يا فيروز ؟ فخشي إن رجع أن يهلك هو والمرأة ، فعالجه وخالطه وهو مثل الجمل ، فأخذ برأسه فدق عنقه وقتله ، ثم قام ليخرج فأخذت المرأة بثوبه تناشده ، فقال : أخبر أصحابي بقتله . فأتانا فقمنا معه ، فأردنا حز رأسه فحركه الشيطان واضطرب ، فلم نضبطه ، فقال : اجلسوا على صدره . فجلس اثنان وأخذت المرأة بشعره ، وسمعنا بربرة فألجمته بملاءة . وأمر الشفرة على حلقه ، فخار كأشد خوار ثور ، فابتدر الحرس الباب : ما هذا ؟ ما هذا ؟ قالت : النبي يوحى إليه . قال : وسمرنا ليلتنا كيف نخبر أشياعنا ، فأجمعنا على النداء بشعارنا ثم بالأذان ، فلما طلع الفجر نادى داذويه [ ص: 32 ] بالشعار ، ففزع المسلمون والكافرون ، واجتمع الحرس فأحاطوا بنا ، ثم ناديت بالأذان ، وتوافت خيولهم إلى الحرس ، فناديتهم : أشهد أن محمدا رسول الله ، وأن عبهلة كذاب ، وألقينا إليهم الرأس ، وأقام وبر الصلاة ، وشنها القوم غارة ، ونادينا : يا أهل صنعاء من دخل عليه داخل فتعلقوا به ، فكثر النهب والسبي ، وخلصت صنعاء والجند ، وأعز الله الإسلام ، وتنافسنا الإمارة ، وتراجع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطلحنا على معاذ بن جبل ، فكان يصلي بنا ، وكتبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الخبر فقدمت رسلنا ، وقد قبض النبي صلى الله عليه وسلم صبيحتئذ فأجابنا أبو بكر ، رضي الله عنه .
وروى الواقدي عن رجاله ، قال : بعث أبو بكر إلى قيس بن مكشوح اليمن ، فقتل الأسود العنسي ، هو وفيروز الديلمي . ولقيس هذا أخبار ، وقد ارتد ثم أسره المسلمون ، فعفا عنه أبو بكر ، وقتل مع علي بصفين .