استئناف بياني ناشئ عن قوله من ذا الذي يعصمكم من الله لأن ذلك يثير سؤالا يهجس في نفوسهم أنهم يخفون مقاصدهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يشعر بمرادهم من الاستئذان ، فأمر أن يقول لهم قد يعلم الله المعوقين منكم أي فالله ينبئ رسوله بكم بأن فعل أولئك تعويق للمؤمنين . وقد جعل هذا الاستئناف تخلصا لذكر فريق آخر من المعوقين .
و ( قد ) مفيد للتحقيق لأنهم لنفاقهم ومرض قلوبهم يشكون في لازم هذا الخبر وهو إنباء الله رسوله عليه الصلاة والسلام بهم ، أو لأنهم لجهلهم الناشئ عن الكفر يظنون أن الله لا يعلم خفايا القلوب . وذلك ليس بعجيب في عقائد أهل الكفر . ففي صحيح عن البخاري ( اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا . وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله تعالى : ابن مسعود وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون . [ ص: 294 ] فللتوكيد بحرف التحقيق موقع .
ودخول ( قد ) على المضارع لا يخرجها عن معنى التحقيق عند المحققين من أهل العربية ، وأن ما توهموه من التقليل إنما دل عليه المقام في بعض المواضع لا من دلالة قد ، ومثله إفادة التكثير ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء في سورة البقرة ، وقوله تعالى : قد يعلم ما أنتم عليه في آخر سورة النور .
والمعوق : اسم فاعل من عوق الدال على شدة حصول العوق . يقال : عاقه عن كذا ، إذا منعه وثبطه عن شيء ، فالتضعيف فيه للشدة والتكثير مثل : قطع الحبل ، إذا قطعه قطعا كبيرة ، وغلقت الأبواب ، أي أحكمت غلقها . ويكون للتكثير في الفعل القاصر مثل : موت المال ، إذا كثر الموت في الإبل ، وطوف فلان ، إذا أكثر الطواف ، والمعنى : يعلم الله الذين يحرصون على تثبيط الناس عن القتال . والخطاب بقوله منكم للمنافقين الذين خوطبوا بقوله لن ينفعكم الفرار .
ويجوز أن يكون القائلون لإخوانهم هلم إلينا هم المعوقين أنفسهم فيكون من عطف صفات الموصوف الواحد ، كقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام
ويجوز أن يكونوا طائفة أخرى وإخوانهم هم الموافقون لهم في النفاق ، فالمراد : الأخوة في الرأي والدين . وذلك أن عبد الله بن أبي ، ومعتب بن قشير ، ومن معهما من الذين انخزلوا عن جيش المسلمين يوم أحد فرجعوا إلى المدينة كانوا يرسلون إلى من بقي من المنافقين في جيش المسلمين يقولون لهم هلم إلينا أي ارجعوا إلينا . قال قتادة : هؤلاء ناس من المنافقين يقولون لهم : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ( أي نفر قليل يأكلون رأس بعير ) ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان ومن معه ( تمثيلا بأنهم سهل تغلب أبي سفيان عليهم ) .و هلم اسم فعل أمر بمعنى أقبل في لغة أهل الحجاز وهي الفصحى ، فلذلك تلزم هذه الكلمة حالة واحدة عندهم لا تتغير عنها ، يقولون : هلم ، للواحد [ ص: 295 ] والمتعدد المذكر والمؤنث ، وهي فعل عند بني تميم فلذلك يلحقونها العلامات يقولون : هلم وهلمي وهلما وهلموا وهلممن . وتقدم في قوله تعالى : قل هلم شهداءكم في سورة الأنعام .
والمعنى : انخزلوا عن جيش المسلمين وأقبلوا إلينا .
وجملة ولا يأتون البأس إلا قليلا كلام مستقل فيجوز أن تكون الجملة حالا من القائلين لإخوانهم هلم إلينا . ويجوز أن تكون عطفا على المعوقين والقائلين لأن الفعل يعطف على المشتق كقوله تعالى : فالمغيرات صبحا فأثرن وقوله إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله ، فالتقدير هنا : قد يعلم الله المعوقين والقائلين وغير الآتين البأس ، أو والذين لا يأتون البأس . وليس في تعدية فعل العلم إلى لا يأتون إشكال لأنه على تأويل كما أن عمل الناسخ في قوله وأقرضوا على تأويل ، أي يعلم الله أنهم لا يأتون البأس إلا قليلا ، أي يعلم أنهم لا يقصدون بجمع إخوانهم معهم الاعتضاد بهم في الحرب ولكن عزلهم عن القتال .
ومعنى إلا قليلا إلا زمانا قليلا ، وهو زمان حضورهم مع المسلمين المرابطين ، وهذا كقوله فلا يؤمنون إلا قليلا ، أي إيمانا ظاهرا ، ومثل قوله تعالى : أو بظاهر من القول . و قليلا صفة لمصدر محذوف ، أي إتيانا قليلا ، وقلته تظهر في قلة زمانه وفي قلة غنائه .
والبأس : الحرب وتقدم في قوله تعالى : ليحصنكم من بأسكم في سورة الأنبياء . وإتيان الحرب مراد به إتيان أهل الحرب أو موضعها . والمراد : البأس مع المسلمين ، أي مكرا بالمسلمين لا جبنا .
و أشحة جمع شحيح بوزن أفعلة على غير قياس وهو فصيح وقياسه أشحاء . وضمير الخطاب في قوله عليكم للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين ، وهو انتقال من القول الذي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله لهم إلى كشف أحوالهم للرسول والمسلمين بمناسبة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة في قوله ولا يأتون البأس . وتقدم الشح عند قوله تعالى : وأحضرت الأنفس الشح في سورة النساء .
[ ص: 296 ] و أشحة حال من ضمير يأتون . والشح : البخل بما في الوسع مما ينفع الغير . وأصله : عدم بذل المال ، ويستعمل مجازا في منع المقدور من النصر أو الإعانة ، وهو يتعدى إلى الشيء المبخول به بالباء و بـ على قال تعالى : أشحة على الخير ويتعدى إلى الشخص الممنوع بـ على أيضا لما في الشح من معنى الاعتداء فتعديته في قوله تعالى : أشحة عليكم من التعدية إلى الممنوع .
والمعنى : يمنعونكم ما في وسعهم من المال أو المعونة ، أي إذا حضروا البأس منعوا فائدتهم عن المسلمين ما استطاعوا ومن ذلك شحهم بأنفسهم وكل ما يشح به .
ويجوز جعل على هنا متعدية إلى المضنون به ، أي كما في البيت الذي أنشده : الجاحظ
لقد كنت في قوم عليك أشحة بنفسك إلا أن ما طاح طائح
وفرع على وصفهم بالشح على المسلمين قوله فإذا جاء الخوف إلى آخره .
والمجيء : مجاز مشهور من حدوث الشيء وحصوله . كما قال تعالى : فإذا جاء وعد الآخرة .
والخوف : توقع القتال بين الجيشين ، ومنه سميت صلاة الخوف .
والمقصود : وصفهم بالجبن ، أي إذا رأوا جيوش العدو مقبلة رأيتهم ينظرون إليك . والظاهر أن الآية تشير إلى بين الفرسان الثلاثة الذين اقتحموا الخندق من أضيق جهاته وبين ما حصل في بعض أيام الأحزاب من القتال ومن معه من المسلمين كما تقدم . علي بن أبي طالب
والخطاب في ( رأيتم ) للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وهو يقتضي أن هذا حكاية حالة وقعت لا فرض وقوعها ولهذا أتي بفعل رأيتهم ولم يقل : فإذا جاء الخوف ينظرون [ ص: 297 ] إليك . ونظرهم إليه نظر المتفرس فيماذا يصنع ولسان حالهم يقول : ألسنا قد قلنا لكم إنكم لا قبل لكم بقتال الأحزاب فارجعوا ، وهم يرونه أنهم كانوا على حق حين يحذرونه قتال الأحزاب ، ولذلك خص نظرهم بأنه للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل : ينظرون إليكم .
وجيء بصيغة المضارع ليدل على تكرر هذا النظر وتجدده .
وجملة تدور أعينهم حال من ضمير ينظرون لتصوير هيئة نظرهم نظر الخائف المذعور الذي يحدق بعينيه إلى جهات يحذر أن تأتيه المصائب من إحداها .
والدور والدوران : حركة جسم رحوية ( أي كحركة الرحى ) منتقل من موضع إلى موضع فينتهي إلى حيث ابتدأ . وأحسب أن هذا الفعل وما تصرف منه مشتقات من اسم الدار ، وهي المكان المحدود المحيط بسكانه بحيث يكون حولهم . ومنه سميت الدارة لكل أرض تحيط بها جبال . وقالوا : دارت الرحى حول قطبها . وسموا الصنم : دوارا بضم الدال وفتحها لأنه يدور به زائروه كالطواف . وسميت الكعبة دوارا أيضا ، وسموا ما يحيط بالقمر دارة . وسميت مصيبة الحرب دائرة لأنهم تخيلوها محيطة بالذي نزلت به لا يجد منها مفرا ، قال عنترة :
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر في الحرب دائرة على ابني ضمضم
وشبه نظرهم بنظر الذي يغشى عليه بسبب النزع عند الموت فإن عينيه تضطربان .
وذهاب الخوف مجاز مشهور في الانقضاء ، أي زوال أسبابه بأن يترك القتال أو يتبين أن لا يقع قتال . وذلك عند انصراف الأحزاب عن محاصرة المدينة كما سيدل عليه قوله يحسبون الأحزاب لم يذهبوا .
[ ص: 298 ] والسلق : قوة الصوت والصياح . والمعنى : رفعوا أصواتهم بالملامة على التعرض لخطر العدو الشديد وعدم الانصياع إلى إشارتهم على المسلمين بمسالمة المشركين ، وفسر السلق بأذى اللسان . قيل : سأل نافع بن الأزرق عن عبد الله بن عباس سلقوكم فقال : الطعن باللسان . فقال نافع : هل تعرف العرب ذلك ؟ فقال : نعم أما سمعت قول الأعشى :
فيهم الخصب والسماحة والنج دة فيهم والخاطب المسلاق
وانتصب أشحة على الخير على الحال من ضمير الرفع في سلقوكم ، أي خاصموكم ولاموكم وهم في حال كونهم أشحة على ما فيه الخير للمسلمين ، أي أن خصامهم إياهم ليس كما يبدو خوفا على المسلمين واستبقاء عليهم ولكنه عن بغض وحقد ; فإن بعض اللوم والخصام يكون الدافع إليه حب الملوم وإبداء النصيحة له ، وأقوال الحكماء والشعراء في هذا المعنى كثيرة .
ويجوز أن يكون الخير هنا هو المال كقوله تعالى : إن ترك خيرا وقوله وإنه لحب الخير لشديد ، أي هم في حالة السلم يسرعون إلى ملامكم ولا يواسونكم بأموالهم للتجهيز للعدو إن عاد إليكم . ودخلت على هنا على المبخول به .