[ ص: 222 ] الظاهر أن الخطاب في قوله : ( لقد كان لكم ) للمؤمنين ، لقوله قبل : ( ولو كانوا فيكم ) وقوله بعد : ( لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) . والمعنى : أنه ، - صلى الله عليه وسلم - ، لكم فيه الاقتداء . فكما نصركم ووازركم حتى قاتل بنفسه عدوكم ، فكسرت رباعيته الكريمة ، وشج وجهه الكريم ، وقتل عمه ، وأوذي ضروبا من الإيذاء ; يجب عليكم أن تنصروه وتوازروه ، ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه ، ولا عن مكان هو فيه ، وتبذلوا أنفسكم دونه ; فما حصل لكم من الهداية للإسلام أعظم من كل ما تفعلونه معه ، من النصرة والجهاد في سبيل الله ، ويبعد قول من قال : إنه خطاب للمنافقين . ( واليوم الآخر ) يوم القيامة . وقيل : يوم السياق . و ( أسوة ) اسم كان ، و ( لكم ) الخبر ، ويتعلق ( في رسول الله ) بما يتعلق به ( لكم ) أو يكون في موضع الحال ; لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتا لـ : ( أسوة ) ، أو يتعلق بـ : ( كان ) على مذهب من أجاز في كان وأخواتها الناقصة أن تعمل في الظرف والمجرور ، ويجوز أن يكون ( في رسول الله ) الخبر ، و ( لكم ) تبيين ، أي : لكم ، أعني : ( لمن كان يرجو الله ) . قال : بدل من ( لكم ) ، كقوله : ( الزمخشري للذين استضعفوا لمن آمن منهم ) . انتهى . ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ، ولا من ضمير المخاطب ، اسم ظاهر في بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة ، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش ، ويدل عليه قول الشاعر :
بكم قريش كفينا كل معضلة وأم نهج الهدى من كان ضليلا
وقرأ الجمهور : " إسوة " بكسر الهمزة ; وعاصم بضمها . والرجاء : بمعنى الأمل أو الخوف . وقرن الرجاء بذكر الله ، والمؤتسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هو الذي يكون راجيا ذاكرا . ولما بين تعالى المنافقين وقولهم : ( ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) بين حال المؤمنين ، وقولهم ضد ما قال المنافقون . وكان الله وعدهم أن يزلزلهم حتى يستنصروه في قوله : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ) الآية . فلما جاء الأحزاب ، ونهض بهم للقتال ، واضطربوا ( قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ) وأيقنوا بالجنة والنصر . وعن ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ، لأصحابه : ابن عباس " إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا " ، أي : في آخر تسع ليال أو عشر . فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك . وقيل : الوعد هو ما جاء في الآية مما وعده عليه السلام حين أمر بحفر الخندق ، فإنه أعلمهم بأنهم يحضرون ، وأمرهم بالاستعداد لذلك ، وأعلمهم أنهم سينصرون بعد ذلك . فلما رأوا [ ص: 223 ] الأحزاب قالوا ذلك ، فسلموا لأول الأمر ، وانتظروا آخره . وهذا إشارة إلى الخطب ، إيمانا بالله وبما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لم يقع ، كقولك : فتح مكة وفارس والروم ، فالزيادة فيما يؤمن ، لا في نفس الإيمان .
وقرأ : ابن أبي عبلة وما زادوهم ، بالواو ، وضمير الجمع يعود على الأحزاب ، وتقول : صدقت زيدا الحديث ، وصدقت زيدا في الحديث . وقد عدت " صدق " هذه في ما يتعدى بحرف الجر ، وأصله ذلك ، ثم يتسع فيه فيحذف الحرف ويصل الفعل إليه بنفسه ، ومنه قولهم في المثل : صدقني سن بكره ، أي : في سن بكره . فما عاهدوا ، إما أن يكون على إسقاط الحرف ، أي : فيما عاهدوا ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : صدقوا الله ، وإما أن يكون صدق يتعدى إلى واحد ، كما تقول : صدقني أخوك إذا قال لك الصدق ، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب . وكان المعاهد عليه مصدوقا مجازا ، كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي لك ، وهم وافون به ، فقد صدقوه ، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ، وكان مكذوبا . وهؤلاء الرجال ، قال مقاتل والكلبي : هم أهل العقبة السبعون ، أهل البيعة . وقال أنس : نزلت في قوم لم يشهدوا بدرا ، فعاهدوا أن لا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوفوا . وقال زيد بن رومان : بنو حارثة .
( فمنهم من قضى نحبه ) وهذا تجوز ; لأن الموت أمر لا بد منه أن يقع بالإنسان ، فسمي نحبا لذلك . وقال مجاهد : قضى نحبه : أي : عهده . قال أبو عبيدة : نذره . وقال : ( الزمخشري فمنهم من قضى نحبه ) يحتمل موته شهيدا ، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالت فرقة : الموصوفون بقضاء النحب جماعة من الصحابة وفوا بعهود الإسلام على التمام . فالشهداء منهم ، والعشرة الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة ، منهم من حصل في هذه المرتبة بما لم ينص عليه ، ويصحح هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد سئل : من الذي قضى نحبه ، وهو على المنبر ؟ فدخل فقال : هذا ممن قضى نحبه . ( طلحة بن عبيد الله ومنهم من ينتظر ) إذا فسر قضاء النحب بالشهادة ، كان التقدير : ومنهم من ينتظر الشهادة ; وإذا فسر بالوفاء لعهود الإسلام ، كان التقدير : ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح . وقال مجاهد : ينتظر يوما فيه جهاد ، فيقضي نحبه . ( وما بدلوا ) لا المستشهدون ، ولا من ينتظر . وقد ثبت طلحة يوم أحد حتى أصيبت يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " طلحة " ، وفيه تعريض لمن بدل من المنافقين حين ولوا الأدبار ، وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار . أوجب
( ليجزي الله الصادقين ) أي : الذين ( صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) ( بصدقهم ) أي : بسبب صدقهم . ( ويعذب المنافقين إن شاء ) وعذابهم متحتم . فكيف يصح تعليقه على المشيئة ، وهو قد شاء تعذيبهم إذا وفوا على النفاق ؟ فقال ابن عطية : تعذيب المنافقين ثمرته إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم ، والتوبة موازية لتلك الإقامة ، وثمرة التوبة تركهم دون عذاب . فهما درجتان : إقامة على نفاق ، أو توبة منه . وعنهما ثمرتان : تعذيب ، أو رحمة . فذكر تعالى ، على جهة الإيجاز ، واحدة من هاتين ، وواحدة من هاتين . ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ، ويدلك على أن معنى قوله : ( ليعذب ) أي : ليديم على النفاق ، قوله : ( إن شاء ) ومعادلته بالتوبة ، وحذف " أو " . انتهى . وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير : ليقيموا على النفاق ، فيموتوا عليه ، إن شاء فيعذبهم ، أو يتوب عليهم فيرحمهم . فحذف سبب التعذيب ، وأثبت المسبب ، وهو التعذيب . وأثبت سبب الرحمة والغفران ، وحذف المسبب ، وهو الرحمة والغفران ، وهذا من الإيجاز الحسن . وقال : ويعذبهم إن شاء إذا لم يتوبوا ، ويتوب عليهم إذا تابوا . انتهى . ولا يجوز تعليق عذابهم إذا لم يتوبوا بمشيئته تعالى ; لأنه تعالى قد شاء ذلك وأخبر أنه يعذب المنافقين حتما لا محالة . واللام في ( الزمخشري ليجزي ) قيل : لام الصيرورة ; وقيل : لام التعليل ، ويتعلق بقوله : ( وما بدلوا تبديلا ) . [ ص: 224 ] قال : جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم ، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم ; لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب ، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما . وقال الزمخشري : المعنى : إن شاء يميتهم على نفاقهم ، أو يتوب عليهم بفعلهم من النفاق بتقبلهم الإيمان . وقيل : يعذبهم في الدنيا إن شاء ، ويتوب عليهم إن شاء . ( السدي إن الله كان غفورا رحيما ) أي : غفورا للحوبة ، رحيما بقبول التوبة .
( ورد الله الذين كفروا ) الأحزاب عن المدينة ، والمؤمنين إلى بلادهم . ( بغيظهم ) فهو حال ، والباء للمصاحبة ; و ( لم ينالوا ) حال ثانية ، أو من الضمير في ( بغيظهم ) ، فيكون حالا متداخلة . وقال : ويجوز أن تكون الثانية بيانا للأولى ، أو استئنافا . انتهى . ولا يظهر كونها بيانا للأولى ، ولا للاستئناف ; لأنها تبقى كالمفلتة مما قبلها . ( الزمخشري وكفى الله المؤمنين القتال ) بإرسال الريح والجنود ، وهم الملائكة ، فلم يكن قتال بين المؤمنين والكفار . وقيل : المراد ومن معه ، برزوا للقتال ودعوا إليه . وقتل علي بن أبي طالب علي من الكفار مبارزة ، حين طلب عمرو بن عبيد عمرو المبارزة ، فخرج إليه علي ، فقال : إني لا أوثر قتلك لصحبتي لأبيك ، فقال له علي : فأنا أوثر قتلك ، فقتله علي مبارزة . واقتحم ، من نوفل بن الحارث قريش ، الخندق بفرسه ، فقتل فيه . وقتل من الكفار أيضا : ، منبه بن عثمان وعبيد بن السباق . واستشهد من المسلمين ، في غزوة الخندق : معاذ ، وأنس بن أوس بن عتيك ، وعبد الله بن سهل ، وأبو عمرو ، وهم من بني عبد الأشهل ; والطفيل بن النعمان ، وثعلبة بن غنمة ، وهما من بني سلمة ; وكعب بن زيد ، من بني ذبيان بن النجار ، أصابه سهم غرب فقتله . ولم تغز قريش المسلمين بعد الخندق ، وكفى الله مداومة القتال وعودته بأن هزمهم بعد ذلك ، وذلك بقوته وعزته . وعن : أبي سعيد الخدري وكفى الله المؤمنين القتال ) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلالا ، فأقام وصلى الظهر فأحسنها ، ثم كذلك كل صلاة بإقامة . حبسنا يوم الخندق ، فلم نصل الظهر ، ولا العصر ، ولا المغرب ، ولا العشاء ، حتى كان بعد هوي من الليل ، كفينا وأنزل الله تعالى : (
( وأنزل الذين ظاهروهم ) أي : أعانوا قريشا ومن معهم من الأحزاب من أهل الكتاب ، هم يهود بني قريظة ، كما هو قول الجمهور . وعن الحسن : بنو النضير . وقذف الرعب سبب لإنزالهم ، ولكنه قدم المسبب ، لما كان السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم قدم . وقال رجل : يا رسول الله ، مر بنا على بغلة بيضاء عليها قطيفة ديباج ، فقال : " دحية الكلبي ذلك جبريل ، عليه السلام ، بعث إلى بني قريظة ، يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب في قلوبهم " . ولما رجعت الأحزاب ، جاء جبريل وقت الظهر فقال : إن الله يأمرك بالخروج إلى بني قريظة . فنادى في الناس : " بني قريظة " ، فخرجوا إليها ، فمصل في الطريق ، ورأى أن ذلك خرج مخرج التأكيد والاستعجال ; ومصل بعد العشاء ، وكل مصيب . فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، وقيل : إحدى وعشرين ، وقيل : خمسة عشر . فنزلوا على حكم لا يصلين أحد العصر إلا في ، لحلف كان بينهم ، رجوا حنوه عليهم ، فحكم أن يقتل المقاتلة ويسبى الذرية والعيال والأموال ، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار . فقالت له الأنصار في ذلك ، فقال : أردت أن يكون لهم أموال كما لكم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سعد بن معاذ الأوسي لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " ، ثم استنزلهم ، وخندق لهم في سوق المدينة ، وقدمهم فضرب أعناقهم ، وهم من بين ثمانمائة إلى تسعمائة . وقيل : كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير . وجيء بحيي بن أخطب النضيري ، وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله ، فدخل عندهم وفاء لهم ، فترك فيمن ترك على حكم سعد . فلما قرب ، وعليه حلتان تفاحيتان ، مجموعة يداه إلى عنقه ، أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد [ ص: 225 ] والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكن من يخذل الله يخذل . ثم قال : أيها الناس ، إنه لا بأس أمر الله وقدره ، ومحنة كتبت على بني إسرائيل ، ثم تقدم فضربت عنقه . وقال فيه بعض بني ثعلبة :
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها وقلقل يبغي العز كل مقلقل
وقتل من نسائهم امرأة ، وهي لبابة امرأة الحكم القرظي ، كانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتل ; ولم يستشهد في حصار بني قريظة غيره . ومات في الحصار أبو سفيان بن محصن ، أخو ، وكان فتح عكاشة بن محصن قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة . وقرأ الجمهور : ( وتأسرون ) ، بتاء الخطاب وكسر السين ; وأبو حيوة : بضمهما ; واليماني : بياء الغيبة ; ، عن وابن أنس ابن ذكوان : بياء الغيبة في : ( تقتلون وتأسرون ) . ( وأورثكم ) فيه إشعار أنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين ومن نقلهم من أرضهم ، وقدمت لكثرة المنفعة بها من النحل والزرع ، ولأنهم باستيلائهم عليها ثانيا وأموالهم ليستعان بها في قوة المسلمين للجهاد ، ولأنها كانت في بيوتهم ، فوقع الاستيلاء عليها ثالثا . ( وأرضا لم تطئوها ) وعد صادق في فتح البلاد ، كالعراق والشام واليمن ومكة ، وسائر فتوح المسلمين . وقال عكرمة : أخبر تعالى أن قد قضى بذلك . وقال الحسن : أراد الروم وفارس . وقال قتادة : كنا نتحدث أنها مكة . وقال مقاتل ، ويزيد بن رومان ، وابن زيد : هي خيبر ; وقيل : اليمن ; ولا وجه لهذه التخصيصات ، ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم . وقرأ الجمهور : تطئوها ، بهمزة مضمومة بعدها واو . وقرأ : " لم تطوها " ، بحذف الهمزة ، أبدل همزة " تطأ " ألفا على حد قوله : زيد بن علي
إن السباع لتهدا في مرابضها والناس لا يهتدى من شرهم أبدا
فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت ، كقولك : لم تروها . وختم تعالى هذه الآية بقدرته على كل شيء ، فلا يعجزه شيء ، وكان في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة ، وأنه لا يستبعد ذلك ، فكما ملكهم هذه ، فكذلك هو قادر على أن يملكهم غيرها من البلاد .