لما ذكر أشياء من الأمور السماوية وإرسال الملائكة ، ذكر أشياء من الأمور الأرضية : الرياح وإرسالها ، وفي هذا احتجاج على منكري البعث . دلهم على المثال الذي يعاينونه ، وهو وإحياء الموتى سيان . وفي الحديث : " أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم : كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال : هل مررت بواد أهلك محلا ، ثم مررت به يهتز خضرا ؟ فقالوا : نعم ، فقال : فكذلك يحيي الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه " .
قيل ( أرسل ) في معنى يرسل ، ولذلك عطف عليه ( فتثير ) . وقيل : جيء بالمضارع حكاية حال يقع فيها إثارة الرياح السحاب ، ويستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية ، ومنه فتصبح الأرض مخضرة . قال : وكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز خصوصية بحال يستغرب ، أو يتهم المخاطب ، أو غير ذلك ، كما قال الزمخشري تأبط شرا :
بأني قد لقيت الغول تهوي بشهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت صريعا لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي يشجع فيها ابن عمه على ضرب الغول ، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها ، مشاهدة للتعجب من جراءته على كل هول ، وثباته عند كل شدة . وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها . لما كان من الدلائل على القدرة الباهرة ، وقيل : فسقنا وأحيينا ، معدولا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه . انتهى . وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : أي أرسل بلفظ الماضي لما أسند إلى الله وما يفعله تعالى بقوله : كن ، لا يبقى زمانا ولا جزء زمان ، فلم يأت بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه ، ولأنه فرغ من كل شيء ، فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة . ولما أسند الإثارة إلى الريح ، وهي تؤلف في زمان ، قال ( فتثير ) ، وأسند ( أرسل ) إلى الغائب ، وفي ( فسقناه ) ، و ( فأحيينا ) إلى المتكلم ; لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ، ثم لما عرف قال : أنا الذي عرفتني سقت السحاب فأحييت الأرض . ففي الأول تعريف بالفعل العجيب ، وفي الثاني تذكير بالبعث . وفسقناه وفأحيينا بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين فتثير وأرسل . انتهى . وهذا الذي ذكر من الفرق بين أرسل وفتثير لا يظهر . ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة الروم ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ) ، وفي الأعراف ( وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) ، كيف جاء في الإرسال بالمضارع ؟ وإنما هذا من التفنن في الكلام والتصرف في البلاغة . وأما الخروج من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه فهو من باب الالتفات ، وكذلك ما في الأعراف ( سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات ) . وأما قوله : وما يفعله تعالى إلى آخره ، وكل فعل ، وإن كان أسند إلى غيره مجازا ، فهو فعله حقيقة ، فلا فرق بين ما يسنده إلى ذاته ، وبين ما يسند إلى غيره ; لأن جميع ذلك هو إيجاده وخلقه . والنشور ، مصدر نشر : الميت إذا حيي ، قال الأعشى :
[ ص: 303 ]
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر
والنشور : مبتدأ ، والجار والمجرور قبله في موضع الجر ، والتشبيه وقع لجهات لما قبلت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها ، كذلك الأعضاء تقبل الحياة . أو كما أن الريح يجمع قطع السحاب ، كذلك تجمع أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء ; أو كما يسوق الرياح والسحاب إلى البلد الميت ، يسوق الروح والحياة إلى البدن . ( من كان يريد العزة ) أي المغالبة ، ( فلله العزة ) أي ليست لغيره ، ولا تتم إلا به ، والمغالب مغلوب . ونحا إليه مجاهد وقال ( من كان يريد العزة ) بعبادة الأوثان ، وهذا تمثيل لقوله ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا ) . وقال قتادة ( من كان يريد العزة ) وطريقها القويم ويحب نيلها ، ( فلله العزة ) أي به وعن أمره ، لا تنال عزته إلا بطاعته . وقال الفراء : من كان يريد علم العزة ، ( فلله العزة ) أي هو المتصف بها . وقيل ( من كان يريد العزة ) أي لا يعقبها ذلة ويصار بها للذلة . وقال : كان الكافرون يتعززون بالأصنام ، كما قال عز وجل ( الزمخشري واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا ) . والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين ، كما قال ( الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ) ، فبين أن لا عزة إلا لله ولأوليائه وقال ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) . انتهى . ولا تنافي بين قوله ( فإن العزة لله جميعا ) ، وإن كان الظاهر أنها له لا لغيره ، وبين قوله ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) وإن كان يقتضي الاشتراك ; لأن العزة في الحقيقة لله بالذات ، وللرسول بواسطة قربه من الله ، وللمؤمنين بواسطة الرسول . فالمحكوم عليه أولا غير المحكوم عليه ثانيا . ومن اسم شرط ، وجملة الجواب لا بد أن يكون فيها ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفا ، والجواب محذوف تقديره على حسب تلك الأقوال السابقة . فعلى قول مجاهد : فهو مغلوب ، وعلى قول قتادة : فليطلبها من الله ، وعلى قول الفراء : فلينسب ذلك إلى الله ، وعلى القول الرابع : فهو لا ينالها ; وحذف الجواب استغناء عنه بقوله ( فلله العزة جميعا ) ، لدلالته عليه . والظاهر من هذه الأقوال قول قتادة : فليطلبها ممن العزة له يتصرف فيها كما يريد ، كما قال تعالى ( وتعز من تشاء وتذل من تشاء ) ، وانتصب جميعا على المراد ، والمراد عزة الدنيا وعزة الآخرة .
و ( الكلم الطيب ) التوحيد والتحميد وذكر الله ونحو ذلك . وقال : شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل : ثناء بالخير على صالحي المؤمنين . وقال ابن عباس كعب : إن لسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر لدويا حول العرش كدوي النحل بذكر صاحبها . وقرأ الجمهور ( يصعد ) ، مبنيا للفاعل من صعد ; ( الكلم الطيب ) مرفوعا ، فالكلم جمع كلمة . وقرأ علي ، وابن مسعود ، والسلمي ، وإبراهيم : يصعد من أصعد ، الكلام الطيب على البناء للمفعول . انتهى . وقرأ يصعد من صعد الكلام : رقي ، وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه ; لأنه تعالى ليس في جهة ، ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود ; لأن الصعود من الأجرام يكون ، وإنما ذلك كناية عن القبول ، ووصفه بالكمال . كما يقال : علا كعبه وارتفع شأنه ، ومنه ترافعوا إلى الحاكم ، ورفع الأمر إليه ، وليس هناك علو في الجهة . زيد بن علي
وقرأ الجمهور : والعمل الصالح يرفعهما . فالعمل مبتدأ ، ويرفعه الخبر ، وفاعل يرفعه ضمير يعود على العمل الصالح ، وضمير النصب يعود على الكلم ، أي يرفع الكلم الطيب ، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد والضحاك . وقال الحسن : يعرض القول على الفعل ، فإن وافق القول الفعل قبل ، وإن خالف رد . وعن نحوه ، قال : إذا ذكر الله العبد وقال كلاما طيبا وأدى فرائضه ، ارتفع قوله مع عمله ; وإذا قال ولم يؤد فرائضه ، رد قوله على عمله ; وقيل : عمله أولى به . قال ابن عباس ابن عطية : وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ، ولا يصح عن . والحق أن [ ص: 204 ] القاضي لفرائضه إذ ذكر الله وقال كلاما طيبا ، فإنه مكتوب له متقبل ، وله حسناته وعليه سيئاته ، والله يتقبل من كل من اتقى الشرك . وقال ابن عباس أبو صالح ، عكس هذا القول : ضمير الفاعل يعود على الكلم ، وضمير النصب على العمل الصالح ، أي يرفعه الكلم الطيب . وقال وشهر بن حوشب قتادة : إن الفاعل هو ضمير يعود على الله ، والهاء للعمل الصالح ، أي يرفعه الله إليه ، أي يقبله . وقال ابن عطية : هذا أرجح الأقوال . وعن : والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه ، فجعله على حذف مضاف . ويجوز عندي أن يكون العمل معطوفا على الكلم الطيب ، أي يصعدان إلى الله ، ويرفعه استئناف إخبار ، أي يرفعهما الله ، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود ، والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة ، فيكون لفظه مفردا ، والمراد به التثنية ، فكأنه قيل : ليس صعودهما من ذاتهما ، بل ذلك برفع الله إياهما . وقرأ ابن عباس عيسى ، : والعمل الصالح ، بنصبهما على الاشتغال ، فالفاعل ضمير الكلم أو ضمير الله ، ومكر لازم ، ( والسيئات ) نعت لمصدر محذوف ، أي المكرات السيئات ، أو المضاف إلى المصدر ، أي أضاف المكر إلى السيئات ، أو ضمن يمكرون معنى ، يكتسبون ، فنصب السيئات مفعولا به . وإذا كانت ( السيئات ) نعتا لمصدر ، أو لمضاف لمصدر ، فالظاهر أنه عنى به مكرات وابن أبي عبلة قريش في دار الندوة ، إذ تذاكروا إحدى ثلاث مكرات ، وهي المذكورة في الأنفال : إثباته ، أو قتله ، أو إخراجه ; و ( أولئك ) إشارة إلى الذين مكروا تلك المكرات . ( يبور ) أي يفسد ويهلك دون مكر الله بهم ، إذ أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر ، فجمع عليهم مكراتهم جميعا وحقق فيهم قوله ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) ، وقوله ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) ، وهو مبتدأ ، أو يبور خبره ، والجملة خبر عن قوله ( ومكر أولئك ) . وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون هو فاصلة ، ويبور خبر ، ومكر أولئك والفاصلة لا يكون ما يكون ما بعدها فعلا ، ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه إلا في شرح الإيضاح له ، فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلا ورد ذلك عليه . عبد القاهر الجرجاني
( والله خلقكم من تراب ) من حيث خلق أبينا آدم . ( ثم من نطفة ) أي بالتناسل . ( ثم جعلكم أزواجا ) أي أصنافا ذكرانا وإناثا ، كما قال ( أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ) . وقال قتادة : قدر بينكم الزوجية ، وزوج بعضكم بعضا ، ومن في ( من معمر ) زائدة ، وسماه بما يؤول إليه ، وهو الطويل العمر . والظاهر أن الضمير في ( من عمره ) عائد على معمر لفظا ومعنى . وقال وغيره : يعود على معمر الذي هو اسم جنس ، والمراد غير الذي يعمر ، فالقول تضمن شخصين : يعمر أحدهما مائة سنة ، وينقص من الآخر . وقال ابن عباس أيضا ، ابن عباس ، وابن جبير وأبو مالك : المراد شخص واحد ، أي يحصي ما مضى منه إذ مر حول كتب ذلك ثم حول ، فهذا هو النقص ، وقال الشاعر :
حياتك أنفاس تعد فكلما مضى نفس منك انتقصت به جزءا
وقال : معنى ( كعب الأحبار ولا ينقص من عمره ) لا يخترم بسببه قدرة الله ، ولو شاء لأخر ذلك السبب . وروي أنه قال ، لما طعن عمر - رضي الله عنه : لو دعا الله لزاد في أجله ، فأنكر المسلمون عليه ذلك وقالوا : إن الله تعالى يقول ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ، فاحتج بهذه الآية . قال ابن عطية : وهو قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين ، وبنحوه تمسك المعتزلة . وقرأ الجمهور : ولا ينقص ، مبنيا للمفعول . وقرأ يعقوب ، وسلام ، وعبد الوارث ، وهارون ، كلاهما عن أبي عمرو : ولا ينقص ، مبنيا للفاعل . وقرأ الحسن ( من عمره إلا في كتاب ) . قال : هو اللوح المحفوظ . وقال ابن عباس : يجوز أن يراد بكتاب الله علم الله ، أو صحيفة الإنسان . انتهى . الزمخشري
( وما يستوي البحران ) هذه آية أخرى يستدل بها على كل عاقل أنه مما لا مدخل لصنم فيه . وتقدم شرح : [ ص: 305 ] ( هذا عذب فرات ) ، وشرح ( وهذا ملح أجاج ) في سورة الفرقان . وهنا بين القسمين صفة للعرب ، وبين قوله ( سائغ شرابه ) . وقرأ الجمهور : سائغ ، اسم فاعل من ساغ . وقرأ عيسى : ( سيغ ) على وزن فيعل ، كميت ; وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم . وقرأ عيسى أيضا : ( سيغ ) مخففا من المشدد ، كميت مخفف ميت . وقرأ الجمهور : ملح ، وأبو نهيك وطلحة : بفتح الميم وكسر اللام ، وقال أبو الفضل الرازي : وهي لغة شاذة ، ويجوز أن يكون مقصورا من مالح ، فحذف الألف تخفيفا . وقد يقال : ماء ملح في الشذوذ ، وفي المستعمل : مملوح . وقال : ضرب البحرين ، العذب والملح ، مثلين للمؤمن والكافر . ثم قال على صفة الاستطراد في صفة البحرين وما علق بها : من نعمته وعطائه . ( الزمخشري ومن كل ) ، ( من ) شرح : ألفاظا من الآية تكررت في سورة النحل . ثم قال : ويحتمل غير طريقة الاستطراد ، وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر ، بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ ، وجري الفلك فيه . وللكافر خلو من النفع ، فهو في طريقة قوله تعالى ( الزمخشري ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) الآية . انتهى . ( لتبتغوا من فضله ) يريد التجارات والحج والغزو ، أو كل سفر له وجه شرعي .
( يولج الليل في النهار ) تقدم شرح هذه الجمل . ولما ذكر أشياء كثيرة تدل على قدرته الباهرة ، من إرسال الرياح ، والإيجاد من تراب وما عطف عليه ، وإيلاج الليل في النهار ، وتسخير الشمس والقمر ; أشار إلى أن المتصف بهذه الأفعال الغريبة هو الله فقال ( ذلكم الله ربكم له الملك ) ، وهي أخبار مترادفة ; والمبتدأ ( ذلكم ) ، و ( الله ربكم ) خبران ، و ( له الملك ) جملة مبتدأ في قران قوله ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ) . قال : ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة وعطف بيان ، وربكم خبر ، لولا أن المعنى يأباه . انتهى . أما كونه صفة ، فلا يجوز ; لأن الله علم ، والعلم لا يوصف به ، وليس اسم جنس كالرجل ، فتتخيل فيه الصفة . وأما قوله : لولا أن المعنى يأباه ، فلا يظهر أن المعنى يأباه ; لأنه يكون قد أخبر بأن المشار إليه بتلك الصفات والأفعال المذكورة ربكم ، أي مالككم ، أو مصلحكم ، وهذا معنى لائق سائغ ، والذين يدعون من دونه هي الأوثان . وقرأ الجمهور : تدعون ، بتاء الخطاب ، الزمخشري وعيسى ، وسلام ، ويعقوب : بياء الغيبة . وقال صاحب الكامل أبو القاسم بن جبارة : يدعون بالياء ، اللؤلؤي عن أبي عمرو وسلام ، والنهاوندي عن قتيبة ، عن وابن الجلاء نصير ، وابن حبيب وابن يونس عن ، الكسائي وأبو عمارة عن حفص . والقطمير ، تقدم شرحه . وقال جويبر عن رجاله ، والضحاك : هو القمع الذي في رأس التمرة . وقال مجاهد : لفافة النواة ; وقيل : الذي بين قمع التمرة والنواة ; وقيل : قشر الثوم ; وأيا ما كان ، فهو تمثيل للقليل ، وقال الشاعر :
وأبوك يخفف نعله متوركا ما يملك المسكين من قطمير
( لا يسمعوا دعاءكم ) ; لأنهم جماد ; ( ولو سمعوا ) ، هذا على سبيل الفرض ; ( ما استجابوا لكم ) ; لأنهم لا يدعون لهم من الإلهية ، ويتبرءون منها . وقيل : ما نفعوكم ، وأضاف المصدر : في شرككم ، أي بإشراككم لهم مع الله في عبادتكم إياهم كقوله ( ما كنتم إيانا تعبدون ) ، فهي إضافة إلى الفاعل . وقوله ( يكفرون ) ، يحتمل أن يكون بما يظهر هنالك من جمودها وبطئها عند حركة ناطق ، ومدافعة كل محتج ، فيجيء هذا على طريق التجوز ، كقول : ذي الرمة
وقفت على ربع لمية ناطق تخاطبني آثاره وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه
( ولا ينبئك مثل خبير ) ، قال قتادة وغيره من المفسرين : الخبير هنا أراد به تعالى نفسه ، فهو الخبير [ ص: 306 ] الصادق الخبر ، نبأ بهذا ، فلا شك في وقوعه . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله ( ولا ينبئك مثل خبير ) من تمام ذكر الأصنام ، كأنه قال : فلا يخبرك مثل من يخبرك عن نفسه ، أي لا يصدق في تبرئها من شرككم منها ، فيريد بالخبير على هذا المثل لهما ، كأنه قال : ولا ينبئك مثل خبير عن نفسه ، وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء . وقال : لا يخبرك بالأمر مخبر ، هو مثل خبير عالم به ، يريد أن الخبير بالأمر هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به . والمعنى : أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق ، لأني خبير بما أخبر به . وقال في التجريد : يحتمل وجهين : أن يكون ذلك خطابا للرسول لما أخبر بأن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده ، وهو أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله عنه ، قال تعالى ( إنهم بربهم يكفرون ) ، أي يكفرون بهم يوم القيامة ، وهذا القول مع كون المخبر عنه أمرا عجيبا هو كما قال ; لأن المخبر عنه خبير . والثاني : أن يكون خطابا ليس مختصا بأحد ، أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر ، لا ينبئك أيها السامع كائنا من كنت مثل خبير . الزمخشري