ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا قوله : بما أراك الله إما بوحي أو بما هو جار على سنن ما قد أوحى الله به ، وليس المراد هنا رؤية العين ؛ لأن الحكم لا يرى ، بل المراد بما عرفه الله به وأرشده إليه ، قوله : ( ولا تكن للخائنين ) أي : لأجل الخائنين خصيما ؛ أي : مخاصما عنهم مجادلا للمحقين بسببهم ، وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق ، قوله : ( واستغفر الله ) أمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار ، قال : إن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين ، وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله الآية ، وبه يتضح المراد ، وقيل : المعنى : واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمخاصمين بالباطل . ابن جرير
قوله : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أي : لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم ، والمجادلة مأخوذة من الجدل وهو الفتل ، وقيل : مأخوذة من الجدالة وهي وجه الأرض ؛ لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها ، وسمي ذلك خيانة لأنفسهم ؛ لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم ، والخوان : كثير الخيانة ، والأثيم : كثير الإثم ، وعدم المحبة كناية عن البغض .
قوله : ( يستخفون من الناس ) أي : يستترون منهم كقوله : ( ومن هو مستخف بالليل ) [ الرعد : 10 ] أي : مستتر ، وقيل : معناه : يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله أي : لا يستترون منه أو لا يستحيون منه ، والحال أنه معهم في جميع أحوالهم عالم بما هم فيه ، فكيف يستخفون منه إذ يبيتون ؛ أي : يديرون الرأي بينهم ، وسماه تبييتا ؛ لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل ما لا يرضى من القول أي : من الرأي الذي أداروه بينهم ، وسماه قولا ؛ لأنه لا يحصل إلا بعد المقاولة بينهم ، قوله : ( ها أنتم هؤلاء ) يعني القوم الذين جادلوا عن صاحبهم السارق كما سيأتي ، والجملة مبتدأ وخبر .
قال : ( أولاء ) بمعنى الذين و ( جادلتم ) بمعنى حاججتم في الحياة الدنيا الزجاج فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة الاستفهام للإنكار والتوبيخ ؛ أي : فمن يخاصم ويجادل الله عنهم يوم القيامة عند تعذيبهم بذنوبهم ؟ أم من يكون عليهم وكيلا أي : مجادلا ومخاصما ، والوكيل في الأصل : القائم بتدبير الأمور .
والمعنى : من ذاك يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه ، وقد أخرج الترمذي ، ، وابن جرير وابن المنذر ، ، ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، عن قال : كان أهل بيت منا يقال لهم : قتادة بن النعمان بنو أبيرق بشر ، وبشير ، ومبشر ، وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم ينحله بعض العرب ثم يقول : قال فلان كذا وكذا ، قال فلان كذا وكذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث ، فقال :
أوكلما قال الرجال قصيدة أصموا فقالوا ابن الأبيرق قالها
قال : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة ؛ أي : حمولة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص نفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير ، الشام فابتاع عمي رفاعة بن رافع حملا من الدرمك ، فجعله في مشربة ، وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما ، فعدي عليه من تحت الليل ، فنقبت المشربة ، وأخذ الطعام والسلاح ، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا بن أخي تعلم أن قد عدي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا ، قال : فتحسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا نارا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم ، قال : وكان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار ، والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام ، فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق وقال : أنا أسرق ؟ فوالله [ ص: 328 ] ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة ، قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ما أنت بصاحبها ، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له ، قال ، قتادة ، : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا ، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سأنظر في ذلك ، فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له : أسير بن عروة فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا رسول الله إن وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت ، قال قتادة بن النعمان قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمته فقال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت ؟ قال قتادة : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ، فأتاني عميرفاعة فقال لي : يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : الله المستعان ، فلم نلبث أن نزل القرآن ( فقدمت ضافطة من إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) بني أبيرق ( واستغفر الله ) أي : مما قلت لقتادة إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إلى قوله : ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [ النساء : 110 ] أي : لو استغفروا الله لغفر لهم ( ومن يكسب إثما ) [ النساء : 111 ] إلى قوله : ( فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ) [ النساء : 111 ] قولهم للبيد : ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك [ النساء : 113 ] يعني : أسير بن عروة ، فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة ، قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد غشي في الجاهلية ؛ أي : كبر ، وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي هو في سبيل الله ، فعرفت أن إسلامه كان صحيحا ، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى [ النساء : 115 ] إلى قوله : ( ضلالا بعيدا ) [ النساء : 115 - 116 ] فلما نزل على سلافة رماها بأبيات من شعر ، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ، ثم خرجت فرمت به في الأبطح ، ثم قالت : أهديت لي شعر حسان بن ثابت حسان ما كنت تأتيني بخير ، قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير . محمد بن سلمة الحرانيورواه وغير واحد ، عن يونس بن بكير محمد بن إسحاق ، عن مرسلا لم يذكر فيه عن أبيه عن جده ، ورواه عاصم بن عمر بن قتادة ، عن ابن أبي حاتم هاشم بن القاسم الحراني ، عن محمد بن الصانع ، حدثنا حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني ، فذكره بطوله ، ورواه محمد بن سلمة في تفسيره ، عن أبو الشيخ الأصبهاني محمد بن العباس بن أيوب ، والحسن بن يعقوب كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ، عن به ، ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث محمد بن سلمة ، يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وقد رواه وإسحاق بن أبي إسرائيل الحاكم في المستدرك ، عن ، عن أبي العباس الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن يونس بن بكير محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه ، ثم قال : هذا صحيح على شرط مسلم .
وقد أخرجه ابن سعد ، عن قال : غدا بشير فذكره مختصرا ، وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطولة عن جماعة من التابعين . محمود بن لبيد