قوله : ولقد أخذ الله كلام مستأنف يتضمن ذكر بعض ما صدر من بني إسرائيل من الخيانة ، وقد تقدم بيان الميثاق الذي أخذه الله عليهم ، واختلف المفسرون في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع منهم على أن النقيب كبير القوم العالم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها ، والنقاب : الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة ، ويقال : نقيب القوم لشاهدهم وضمينهم .
والنقيب : الطريق في الجبل هذا أصله ، وسمي به نقيب القوم ؛ لأنه طريق إلى معرفة أمورهم ، والنقيب : أعلى مكانا من العريف ، فقيل : المراد ببعث هؤلاء النقباء أنهم بعثوا أمناء على الاطلاع على الجبارين والنظر في قوتهم ومنعتهم فساروا ليختبروا حال من بها ويخبروا بذلك ، فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بها ، فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى ، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فأخبروا قراباتهم ، ففشا الخبر حتى بطل أمر الغزو وقالوا : فاذهب أنت وربك فقاتلا [ المائدة : 360 ] وقيل : إن هؤلاء النقباء كفل كل واحد منهم على سبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله ، وهذا معنى بعثهم ، وسيأتي ذكر بعض ما قاله جماعة من السلف في ذلك .
قوله : وقال الله إني معكم أي قال ذلك لبني إسرائيل ، وقيل : للنقباء ، والمعنى : إني معكم بالنصر والعون ، واللام في قوله : لئن أقمتم الصلاة هي الموطئة للقسم المحذوف ، وجوابه : ( لأكفرن ) وهو ساد مسد جواب الشرط ، والتعزير : التعظيم والتوقير ، وأنشد أبو عبيدة :
وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعزر في الندي
أي : يعظم ويوقر ، ويطلق التعزير على الضرب والرد ، يقال : عزرت فلانا إذا أدبته ورددته عن القبيح ، فقوله : ( وعزرتموهم ) أي : عظمتموهم على المعنى الأول ، أو رددتم عنهم أعداءهم ومنعتموهم على الثاني ، قوله : وأقرضتم الله قرضا حسنا أي : أنفقتم في وجوه الخير ، و ( قرضا ) مصدر محذوف الزوائد كقوله تعالى : وأنبتها نباتا حسنا [ آل عمران : 37 ] أو مفعول ثان لأقرضتم ، والحسن : قيل : هو ما طابت به النفس ، وقيل : ما ابتغى به وجه الله ، وقيل : الحلال ، قوله : فمن كفر بعد ذلك أي : بعد الميثاق أو بعد الشرط المذكور فقد ضل سواء السبيل أي : أخطأ وسط الطريق .
قوله : فبما نقضهم ميثاقهم الباء سببية وما زائدة ، أي : فبسبب نقضهم ميثاقهم ( لعناهم ) أي : طردناهم وأبعدناهم وجعلنا قلوبهم قاسية أي : صلبة لا تعي خيرا ولا تعقله ، وقرأ حمزة ( قسية ) بتشديد الياء من غير ألف ، وهي قراءة والكسائي ابن مسعود والنخعي ، يقال : درهم قسي مخفف السين مشدد الياء ؛ أي : زائف ، ذكر ذلك ويحيى بن وثاب أبو عبيد ، وقال الأصمعي وأبو عبيدة : درهم قسي كأنه معرب قاس ، وقرأ ( قسية ) بتخفيف الياء ، وقرأ الباقون : ( قاسية ) . الأعمش
يحرفون الكلم عن مواضعه الجملة مستأنفة لبيان حالهم أو حالية ؛ أي : يبدلونه بغيره أو يتأولونه على غير تأويله ، وقرأ السلمي والنخعي " الكلام " ، قوله : ولا تزال تطلع على خائنة منهم أي : لا تزال يا محمد تقف على خائنة منهم ، والخائنة : الخيانة ، وقيل : هو نعت لمحذوف ، والتقدير فرقة خائنة ، وقد تقع للمبالغة نحو علامة ونسابة إذا أردت المبالغة في وصفه بالخيانة ، وقيل : ( خائنة ) معصية .
قوله : ( إلا قليلا منهم ) استثناء من الضمير في ( منهم ) فاعف عنهم واصفح قيل : هذا منسوخ بآية السيف ، وقيل : خاص بالمعاهدين ، قوله : ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم أي : في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما جاء به ، قال الأخفش : هو كقولك : أخذت من زيد ثوبه ودرهمه ، فرتبة الذين بعد أخذنا ، وقال الكوفيون بخلافه ، وقيل : إن الضمير في قوله : ( ميثاقهم ) راجع إلى بني إسرائيل ؛ أي : أخذنا من النصارى مثل ميثاق المذكورين قبلهم من بني إسرائيل ، وقال : ومن الذين قالوا إنا نصارى ولم يقل ومن النصارى للإيذان بأنهم كاذبون في دعوى النصرانية وأنهم أنصار الله .
قوله : فنسوا حظا مما ذكروا به أي : نسوا من الميثاق المأخوذ عليهم نصيبا وافرا عقب أخذه عليهم فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء أي ألصقنا ذلك بهم ، مأخوذ من الغراء : وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه يقال غري بالشيء يغرى غرا بفتح الغين مقصورا ، وغراء بكسرها ممدودا ؛ أي : أولع به حتى كأنه صار ملتصقا به ، ومثل الإغراء التحرش ، وأغريت الكلب ؛ أي : أولعته بالصيد ، [ ص: 361 ] والمراد بقوله : ( بينهم ) اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم جميعا ، وقيل : بين النصارى خاصة ، لأنهم أقرب مذكور ، وذلك لأنهم افترقوا إلى اليعقوبية والنسطورية والملكانية ، وكفر بعضهم بعضا ، وتظاهروا بالعداوة في ذات بينهم ، قال النحاس : وما أحسن ما قيل في معنى فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم ، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها .
قوله : وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون تهديد لهم ؛ أي : سيلقون جزاء نقض الميثاق ، وقد أخرج ، عن ابن جرير أبي العالية في قوله : بني إسرائيل ولقد أخذ الله ميثاق قال : أخذ مواثيقهم بأن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا أي : كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : ( اثني عشر نقيبا ) قال : من كل سبط من بني إسرائيل رجال أرسلهم موسى إلى الجبارين فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة ، فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يافنة ، فإنهما أمرا الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم فعصوهما وأطاعوا الآخرين ، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما ، فتاهت بنو إسرائيل أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في تيههم ذلك ، فضرب موسى الحجر لكل سبط عينا حجرا لهم يحملونه معهم ، فقال لهم موسى : اشربوا يا حمير ، فنهاه الله عن سبهم .
وأخرج ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ( اثني عشر نقيبا ) قال : هم من ابن عباس بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى المدينة فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل ، فقال : اقدروا قوة قوم وبأسهم وهذه فاكهتهم ، فعند ذلك فتنوا فقالوا : لا نستطيع القتال فاذهب أنت وربك فقاتلا [ المائدة : 24 ] وقد ذكر أسماء هؤلاء الأسباط ، وأسماؤهم مذكورة في السفر الرابع من التوراة ، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق . ابن إسحاق
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم في قوله : ( وعزرتموهم ) قال : أعنتموهم . وأخرج ابن عباس عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : ( وعزرتموهم ) قال : نصرتموهم . وأخرج ، عن ابن جرير في قوله : ابن عباس فبما نقضهم ميثاقهم قال : هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه . وأخرج عنه في قوله : ابن جرير يحرفون الكلم عن مواضعه يعني حدود الله ، يقولون إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه ، وإن خالفكم فاحذروا . وأخرج عنه أيضا في قوله : ابن أبي حاتم ونسوا حظا مما ذكروا به قال : نسوا الكتاب .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : ولا تزال تطلع على خائنة منهم قال : هم يهود مثل الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم دخل عليهم حائطهم . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : ولا تزال تطلع على خائنة منهم قال : كذب وفجور ، وفي قوله : فاعف عنهم واصفح قال : لم يؤمر يومئذ بقتالهم ، فأمره الله أن يعفو عنهم ويصفح ثم نسخ ذلك في ( براءة ) فقال : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية [ التوبة : 29 ] وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن في قوله : إبراهيم النخعي فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة قال : أغرى بعضهم ببعض بالخصومات والجدال في الدين .