قوله : ( على شيء ) فيه تحقير وتقليل لما هم عليه; أي : لستم على شيء يعتد به حتى تقيموا التوراة والإنجيل : أي تعملوا بما فيهما من أوامر الله ونواهيه التي من جملتها أمركم باتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونهيكم عن مخالفته . قال أبو علي الفارسي : ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما . قوله : وما أنزل إليكم من ربكم قيل : هو القرآن ، فإن إقامة الكتابين لا تصح بغير إقامته ، ويجوز أن يكون المراد ما أنزل إليهم على لسان الأنبياء من غير الكتابين .
قوله : وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا أي : كفرا إلى كفرهم وطغيانا على طغيانهم ، والمراد بالكثير منهم من لم يسلم ، واستمر على المعاندة ، وقيل : المراد به العلماء منهم ، وتصدير هذه الجملة بالقسم لتأكيد مضمونها ، قوله : فلا تأس على القوم الكافرين أي : دع عنك التأسف على هؤلاء ، فإن ضرر ذلك راجع إليهم ونازل بهم ، وفي المتبعين لك من المؤمنين غنى لك عنهم . قوله : ( إن الذين آمنوا ) إلخ ، جملة مستأنفة لترغيب من عداهم من المؤمنين .
والمراد بالمؤمنين هنا الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون ( والذين هادوا ) أي دخلوا في دين اليهود ( والصابئون ) مرتفع على الابتداء وخبره محذوف ، والتقدير : والصابئون والنصارى كذلك . قال الخليل : الرفع محمول على التقديم والتأخير ، والتقدير : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وسيبويه والصابئون والنصارى كذلك ، وأنشد قول الشاعر : سيبويه ،
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
أي وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ، ومثله قول ضابي البرجمي :فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وقال الفراء : إنما جاز الرفع ; لأن " إن " ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر ، فعلى هذا هو عنده معطوف على محل اسم إن ، أو على مجموع إن واسمها ، وقيل : إن خبر إن مقدر ، والجملة الآتية خبر الصابئون والنصارى ، كما في قول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
بكر العواذل في الصبا ح يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه
قوله : ( من آمن بالله ) مبتدأ وخبره فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والمبتدأ وخبره خبر لإن ، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، والعائد إلى اسم إن محذوف; أي : من آمن منهم ، ويجوز أن يكون من آمن بدلا من اسم إن وما عطف عليه ، ويكون خبر إن فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والمعنى على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المنافقين كما قدمنا : أن من آمن من هذه الطوائف إيمانا خالصا على الوجه المطلوب وعمل عملا صالحا ، فهو الذي لا خوف عليه ولا حزن ، وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا جميع أهل الإسلام : المخلص والمنافق ، فالمراد بمن آمن من اتصف بالإيمان الخالص واستمر عليه ، ومن أحدث إيمانا خالصا بعد نفاقه .
قوله : لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل كلام مبتدأ لبيان بعض أفعالهم الخبيثة . وقد تقدم في البقرة بيان معنى الميثاق ( وأرسلنا إليهم رسلا ) ليعرفوهم بالشرائع وينذروهم كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم جملة شرطية وقعت جوابا لسؤال ناس من الأحبار بإرسال الرسل كأنه قيل : ماذا فعلوا بالرسل ؟ وجواب الشرط محذوف; أي : عصوه .
وقوله : فريقا كذبوا وفريقا يقتلون جملة مستأنفة أيضا جواب عن سؤال ناس عن الجواب الأول كأنه قيل : كيف فعلوا بهم ؟ فقيل : فريقا منهم كذبوهم ولم يتعرضوا لهم بضرر ، وفريقا آخر منهم قتلوهم ، وإنما قال : ( وفريقا يقتلون ) لمراعاة رءوس الآي ، فمن كذبوه عيسى وأمثاله من الأنبياء ، وممن قتلوه زكريا ويحيى . قوله وحسبوا ألا تكون فتنة أي : حسب هؤلاء الذين أخذ الله عليهم الميثاق أن لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد اغترارا بقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه [ المائدة : 18 ] . قرأ أبو عمرو وحمزة ( تكون ) بالرفع على أن " أن " هي المخففة من الثقيلة ، وحسب بمعنى علم; لأن " أن " معناها التحقيق . وقرأ الباقون بالنصب على أن " أن " ناصبة للفعل ، وحسب بمعنى الظن ، قال النحاس : والرفع عند النحويين في حسبت وأخواتها أجود ، ومثله : والكسائي
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي
قال الأخفش : كما تقول رأيت قومك ثلاثتهم ، وإن شئت كان على إضمار مبتدأ; أي : العمي والصم كثير منهم ، ويجوز أن يكون كثير مرتفعا على الفاعلية على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، ومنه قول الشاعر :
ولكن دفافي أبوه وأمه
بحوران يعصرن السليط أقاربه
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وهذا كلام أيضا مبتدأ لبيان بعض مخازيهم ، والمراد بثالث ثلاثة واحد من ثلاثة ، ولهذا يضاف إلى ما بعده ، ولا يجوز التنوين كما قال قوله : وغيره ، وإنما ينون وينصب ما بعده إذا كان ما بعده دونه بمرتبة نحو ثالث اثنين ورابع ثلاثة ، والقائل بأنه سبحانه وتعالى ثالث ثلاثة هم الزجاج النصارى ، والمراد بالثلاثة : الله سبحانه ، وعيسى ، ومريم كما يدل عليه قوله : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين [ المائدة : 116 ] وهذا هو المراد بقوله : ثلاثة أقانيم : إقنيم الأب وإقنيم الابن ، وإقنيم روح القدس ، وقد تقدم في سورة النساء كلام في هذا ، ثم رد الله سبحانه عليهم هذه الدعوى الباطلة فقال : وما من إله إلا الله الواحد أي : ليس في الوجود إلا الله سبحانه ، وهذه الجملة حالية ، والمعنى : قالوا تلك المقالة ، والحال أنه لا موجود إلا الله ، ومن في قوله : ( من إله ) لتأكيد الاستغراق المستفاد من النفي وإن لم ينتهوا عما يقولون من الكفر ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم جواب قسم محذوف ساد مسد جواب الشرط ، ومن في ( منهم ) بيانية أو تبعيضية . أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه الفاء للعطف على مقدر ، والهمزة للإنكار .
قوله : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أي هو مقصور على الرسالة ، لا يجاوزها كما زعمتم . وجملة ( قد خلت من قبله الرسل ) صفة لرسول; أي : ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله ، وما وقع منه من المعجزات لا يوجب كونه إلها ، فقد كان لمن قبله من الرسل مثلها ، فإن الله أحيا العصا في يد موسى وخلق آدم من غير أب ، فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ووجوده من غير أب يوجبان كونه إلها ، فإن كان كما تزعمون إلها لذلك فمن قبله من الرسل الذين جاءوا بمثل ما جاء به آلهة ، وأنتم لا تقولون بذلك .
قوله : ( وأمه صديقة ) عطف على المسيح; أي : وما أمه إلا صديقة; أي : صادقة فيما تقوله أو مصدقة لما جاء به ولدها من الرسالة ، وذلك لا يستلزم الإلهية لها ، بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء . قوله : [ ص: 387 ] كانا يأكلان الطعام استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر; أي : من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس برب ، بل هو عبد مربوب ولدته النساء ، فمتى يصلح لأن يكون ربا ؟ ! وأما قولكم إنه كان يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته ، فهو كلام باطل يستلزم اختلاط الإله بغير الإله واجتماع الناسوت واللاهوت ، ولو جاز اختلاط القديم بالحادث لجاز أن يكون القديم حادثا ، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره من العباد انظر كيف نبين لهم الآيات أي : الدلالات ، وفيه تعجيب من حال هؤلاء الذين يجعلون تلك الأوصاف مستلزمة للإلهية ويغفلون عن كونها موجودة في زمن لا يقولون بأنه إله ( ثم انظر أنى يؤفكون ) أي : كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان ؟ يقال : أفكه يأفكه إذا صرفه ، وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب ، وجاء بثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت .
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قال : ابن عباس جاء نافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حرملة فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله حق ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكفرتم منها بما أمرتم أن تبينوه للناس ، فبرئت من أحداثكم ، قالوا : فإنا نؤخذ بما في أيدينا وإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك ، فأنزل الله فيهم : قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل إلى قوله : القوم الكافرين . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : وحسبوا ألا تكون فتنة قال : بلاء . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة مثله . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن نحوه . السدي
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قال : النصارى يقولون : إن الله ثالث ثلاثة وكذبوا . وأخرج عنه قال : تفرقت ابن أبي حاتم بنو إسرائيل ثلاث فرق في عيسى ، فقالت فرقة : هو الله ، وقالت فرقة : هو ابن الله ، وقالت فرقة : هو عبد الله وروحه ، وهي المقتصدة وهي مسلمة أهل الكتاب .