مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون
( مثلهم ) مرتفع بالابتداء ، وخبره إما الكاف في قوله : ( كمثل ) لأنها اسم : أي مثل مثل كما في قول الأعشى : أتنتهون ولن تنهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل وقول امرئ القيس : ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا
تصوب فيه العين طورا وترتقي أراد مثل الطعن وبمثل ابن الماء ، ويجوز أن يكون الخبر محذوفا : أي مثلهم مستنير كمثل ، فالكاف على هذا حرف .
والمثل : الشبه ، والمثلان : المتشابهان و " الذي " موضوع موضع الذين : أي كمثل الذين استوقدوا ، وذلك موجود في كلام العرب كقول الشاعر : وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد ومنه وخضتم كالذي خاضوا [ التوبة : 69 ] ومنه والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [ الزمر : 33 ] .
ووقود النار : سطوعها وارتفاع لهبها ، استوقد بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب ، فالسين والتاء زائدتان ، قاله الأخفش .
ومنه قول الشاعر : وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي يجبه .
والإضاءة فرط الإنارة ، وفعلها يكون لازما ومتعديا .
و ما حوله قيل : ما زائدة .
وقيل : هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول ( أضاءت ) وحوله منصوب على الظرفية ، وذهب من الذهاب ، وهو زوال الشيء .
( وتركهم ) أي أبقاهم ( في ظلمات ) جمع ظلمة .
وقرأ بإسكان اللام على الأصل . الأعمش
وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام ، وهي عدم النور .
و ( صم ) وما بعده خبر مبتدأ محذوف : أي هم .
وقرأ " صما بكما عميا " بالنصب على الذم ، ويجوز أن ينتصب بقوله ( تركهم ) . ابن مسعود
والصمم : الانسداد ، يقال قناة صماء : إذا لم تكن مجوفة ، وصممت القارورة : إذا سددتها ، وفلان أصم : إذا انسدت خروق [ ص: 34 ] مسامعه .
والأبكم : الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم فهو الأخرس .
وقيل : الأخرس والأبكم واحد .
والعمى : ذهاب البصر .
والمراد بقوله : فهم لا يرجعون أي إلى الحق ، وجواب لما في قوله فلما أضاءت ، قيل هو : ذهب الله بنورهم وقيل : محذوف تقديره : طفئت فبقوا حائرين .
وعلى الثاني فيكون قوله : ذهب الله بنورهم كلاما مستأنفا أو بدلا من المقدر .
ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام ، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت ، فإنه يعود إلى الظلمة ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة ، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده .
وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت .
ومنه قولهم : للباطل صولة ثم يضمحل وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأنا عظيما في إبراز خفيات المعاني ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر من ذلك في كتابه العزيز ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه .
قال : إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : ابن جرير ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين [ البقرة : 8 ] .
وقال ابن كثير : إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ المنافقون : 3 ] .
قال : وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال : ابن جرير رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت [ الأحزاب : 19 ] أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا [ الجمعة : 5 ] أه .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله تعالى : ابن عباس مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات لا يبصرون يقول : في عذاب ( صم بكم عمي ) فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه .
وأخرج عن ابن جرير وناس من الصحابة في قوله : ابن مسعود مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قالوا : إن ناسا دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ثم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي ، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى .
فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر ، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر ، فهم صم بكم هم الخرس ، فهم لا يرجعون إلى الإسلام .
وأخرج عن ابن جرير في قوله : ابن عباس كمثل الذي استوقد نارا قال : ضربه الله مثلا للمنافق ، وقوله : ذهب الله بنورهم قال : أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به ، وأما الظلمة فهو ضلالهم .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم مثله . ابن عباس
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير مجاهد نحوه .
وأخرجا أيضا عن قتادة نحوه .
وأخرج عن ابن أبي حاتم عكرمة والحسن والسدي نحو ما تقدم . والربيع بن أنس