قوله : لتجدن إلخ هذه جملة مستأنفة مقررة لما فيها من تعداد مساوئ اليهود وهناتهم ، ودخول لام القسم عليها يزيدها تأكيدا وتقريرا ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو لكل من يصلح له كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز . والمعنى في الآية : أن اليهود والمشركين لعنهم الله أشد جميع الناس عداوة للمؤمنين وأصلبهم في ذلك ، وأن النصارى أقرب الناس مودة للمؤمنين ، واللام في للذين آمنوا في الموضعين متعلقة بمحذوف وقع صفة لعداوة ومودة ، وقيل هو متعلق بعداوة ومودة ، والإشارة بقوله : ذلك إلى كونهم أقرب مودة ، والباء في بأن منهم قسيسين للسببية; أي : ذلك بسبب أن منهم قسيسين ، وهو [ ص: 389 ] جمع قس وقسيس قاله قطرب . والقسيس : العالم ، وأصله من قس : إذا تتبع الشيء وطلبه . قال الراجز :
يصبحن عن قس الأذى غوافلا وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها
والقس : النميمة . والقس أيضا : رئيس النصارى في الدين والعلم ، وجمعه قسوس أيضا ، وكذلك القسيس : مثل الشر والشرير ، ويقال في جمع قسيس تكسيرا قساوسة بإبدال إحدى السينين واوا ، والأصل قساسة ، فالمراد بالقسيسين في الآية : المتبعون للعلماء والعباد ، وهو إما عجمي خلطته العرب بكلامها ، أو عربي . والرهبان : جمع راهب كركبان وراكب ، والفعل رهب الله يرهبه ; أي : خافه . والرهبانية والترهب : التعبد في الصوامع . قال أبو عبيد : وقد يكون رهبان للواحد والجمع .قال الفراء : ويجمع رهبان إذا كان للمفرد رهبان ورهابين كقربان وقرابين . وقد قال جرير في الجمع :
رهبان مدين لو رأوك ترهبوا
وقال الشاعر في استعمال رهبان مفردا :لو أبصرت رهبان دير في الجبل لانحدر الرهبان يسعى ونزل
تفيض من الدمع أي : تمتلئ فتفيض ; لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء ، جعل الأعين تفيض ، والفائض : إنما هو الدمع قصدا للمبالغة كقولهم : دمعت عينه . قال امرؤ القيس :
ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي
وقوله : يقولون ربنا آمنا استئناف مسوق لجواب سؤال مقدر ، كأنه قيل فما حالهم عند سماع القرآن ؟ فقال : يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين أي آمنا بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد وبمن أنزلته عليه فاكتبنا مع الشاهدين على الناس يوم القيامة من أمة محمد أو مع الشاهدين بأنه حق ، أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس . قوله : وما لنا لا نؤمن بالله كلام مستأنف ، والاستفهام للاستبعاد ولنا متعلق بمحذوف ، و لا نؤمن في محل نصب في الحال ، والتقدير; أي : شيء حصل لنا حال كوننا لا نؤمن بالله وبما جاءنا من الحق ؟ والمعنى : أنهم استبعدوا انتفاء الإيمان منهم مع وجود المقتضي له ، وهو الطمع في إنعام الله ، فالاستفهام والنفي متوجهان إلى القيد والمقيد جميعا كقوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا [ نوح : 13 ] ، والواو في ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين للحال أيضا بتقدير مبتدأ; أي : أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في الدخول مع الصالحين ؟ فالحال الأولى والثانية صاحبهما الضمير في لنا وعاملهما الفعل المقدر; أي : حصل ، ويجوز أن تكون الحال الثانية من الضمير في نؤمن والتقدير : وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع في صحبة الصالحين . قوله : فأثابهم الله بما قالوا إلخ أثابهم على هذا القول مخلصين له معتقدين لمضمونه . قوله : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم التكذيب بالآيات كفر ، فهو من باب عطف الخاص على العام . والجحيم : النار الشديدة الإيقاد ، ويقال جحم فلان النار : إذا شدد إيقادها ، ويقال أيضا لعين الأسد : جحمة لشدة اتقادها . قال الشاعر :
والحرب لا تبقي لجاحمها التحيل والمزاح
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : ولتجدن أقربهم مودة الآية قال : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة . وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبي هريرة ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله وفي لفظ : إلا حدث نفسه بقتله . قال ابن كثير : وهو غريب جدا . وأخرج عن ابن أبي حاتم عطاء قال : ما ذكر الله به النصارى من خير فإنما يراد به وأصحابه . وأخرج النجاشي أبو الشيخ عنه قال : هم ناس من الحبشة آمنوا إذا جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم .وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في وأصحابه النجاشي وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع . وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والواحدي من طريق قال : أخبرني ابن شهاب سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قالوا : وعروة بن الزبير وكتب معه كتابا إلى عمرو بن أمية الضمري فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم دعا النجاشي والمهاجرين معه ، وأرسل جعفر بن أبي طالب إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم ، ثم أمر النجاشي أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ عليهم سورة جعفر بن أبي طالب مريم ، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع ، وهم الذين أنزل الله فيهم ولتجدن أقربهم مودة إلى قوله : من الشاهدين . بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن في الآية قال : هم رسل سعيد بن جبير بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلا يختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه والسنن ، وفي لفظ : بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثين رجلا ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة يس ، فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق ، فأنزل الله فيهم : النجاشي ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا الآية ونزلت هذه الآية فيهم أيضا : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون [ القصص : 52 ] إلى قوله : [ ص: 390 ] أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا [ القصص : 54 ] . وأخرج عبد بن حميد والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن نحوه بدون ذكر العدد . ابن عباس
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم قال : بعث السدي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثني عشر رجلا سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا ، فأنزل الله فيهم : النجاشي وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول الآية ، والروايات في هذا الباب كثيرة ، وهذا المقدار يكفي ، فليس المراد إلا بيان سبب نزول الآية . وأخرج عن ابن أبي حاتم الحسن في قوله : قسيسين قال : هم علماؤهم . وأخرج عن ابن جرير ابن زيد قال : القسيسون عبادهم . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه من طرق عن في قوله : ابن عباس فاكتبنا مع الشاهدين قال : أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .