قال له هذا القول بعد إخراج إبليس من الجنة ، أو من السماء ، أو من بين الملائكة كما تقدم .
وقد تقدم معنى الإسكان ، ومعنى لا تقربا هذه الشجرة في البقرة .
ومعنى من حيث شئتما من أي نوع من أنواع الجنة شئتما أكله ، ومثله ما تقدم من قوله تعالى : وكلا منها رغدا حيث شئتما ( البقرة : 35 ) وحذف النون من فتكونا لكونه معطوفا على المجزوم أو منصوبا على أنه جواب النهي .
قوله : فوسوس لهما الشيطان الوسوسة : الصوت الخفي ، والوسوسة : حديث النفس ، يقال : وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا بكسر الواو ، والوسوسة بالفتح الاسم : مثل الزلزلة والزلزال ، ويقال : لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي وسواس .
قال الأعشى :
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
والوسواس : اسم الشيطان .ومعنى وسوس له ، وسوس إليه أو فعل الوسوسة لأجله .
قوله : ليبدي لهما أي ليظهر لهما ، واللام للعاقبة كما في قوله : ليكون لهم عدوا وحزنا ( القصص : 8 ) ، وقيل : هي لام كي : أي فعل ذلك ليتعقبه الإيذاء ، أو لكي يقع الإيذاء .
قوله : ما ووري أي ما ستر وغطي عنهما من سوآتهما سمى الفرج سوءة ، لأن ظهوره يسوء صاحبه ، أراد الشيطان أن يسوءهما بظهور ما كان مستورا عنهما من عوراتهما فإنهما كانا لا يريان عورة أنفسهما ولا يراها أحدهما من الآخر ، وإنما لم تقلب الواو في ووري همزة ، لأن الثانية مدة ، قيل : إنما بدت عورتهما لهما لا لغيرهما ، وكان عليهما نور يمنع من رؤيتها وقال أي الشيطان لهما ما نهاكما ربكما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أن في موضع نصب ، وفي الكلام مضاف محذوف تقديره : ولا كراهة أن تكونا ملكين هكذا قال البصريون .
وقال الكوفيون : التقدير لئلا تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين في الجنة أو من الذين لا يموتون .
قال النحاس : فضل الله الملائكة على جميع الخلق في غير موضع في القرآن ، فمنها هذا ، ومنها ولا أقول إني ملك ( هود : 31 ) ، ومنها ولا الملائكة المقربون ( النساء : 172 ) .
قال : لا حجة في هذه الآية ، لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا يكون لهما شهوة في الطعام . ابن فورك
وقد اختلف الناس في هذه المسألة اختلافا كثيرا وأطالوا الكلام في غير طائل ، وليست هذه المسألة مما كلفنا الله بعلمه ، فالكلام فيها لا يعنينا .
وقرأ ابن عباس ، ويحيى بن أبي كثير والضحاك ، ملكين بكسر اللام ، وأنكر هذه القراءة وقال : لم يكن قبل أبو عمرو بن العلاء آدم ملك فيصيرا ملكين .
وقد احتج من قرأ بالكسر بقوله تعالى : هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى .
قال أبو عبيد : هذه حجة بينة لقراءة الكسر ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها .
قال النحاس : هي قراءة شاذة ، وأنكر على أبي عبيد هذا الكلام وجعله من الخطأ الفاحش .
قال : وهل يجوز أن يتوهم على آدم عليه السلام أن يصل إلى أكثر من ملك الجنة وهي غاية الطالبين ، وإنما معنى وملك لا يبلى المقام في ملك الجنة والخلود فيه .
قوله : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين أي حلف لهما فقال : أقسم قساما أي حلف ، ومنه قول الشاعر :
وقاسمهما بالله جهدا لأنتما ألذ من السلوى ما إذا نشورها
وقد قدمنا تحقيق هذا في المائدة ، والمراد بها هنا المبالغة في صدور الأقسام لهما من إبليس ، وقيل : إنهما أقسما له بالقبول كما أقسم لهما على المناصحة .
قوله : فدلاهما بغرور التدلية والإدلاء : إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل ، يقال أدلى دلوه : أرسلها والمعنى : أنه أهبطهما بذلك من الرتبة العلية إلى الأكل من الشجرة ، وقيل : معناه : أوقعهما في الهلاك ، وقيل : خدعهما ، وأنشد نفطويه :
إن الكريم إذا تشاء خدعته وترى اللئيم مجربا لا يخدع
قوله : فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما أي لما طعماها ظهرت لهما عوراتهما بسبب زوال ما كان ساترا لها وهو تقلص النور الذي كان عليها وقد تقدم في البقرة .
قوله : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة طفق يفعل كذا : بمعنى شرع يفعل كذا .
وحكى الأخفش : طفق يطفق مثل ضرب يضرب : أي شرعا أو جعلا يخصفان عليهما .
قرأ الحسن " يخصفان " بكسر الخاء وتشديد الصاد ، والأصل يختصفان فأدغم وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين .
وقرأ ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء .
وقرأ " يخصفان " من أخصف . الزهري
وقرأ الجمهور يخصفان من خصف .
والمعنى : أنهما أخذا يقطعان الورق ويلزقانه بعورتهما ليستراها ، من خصف [ ص: 469 ] النعل : إذا جعله طبقة فوق طبقة وناداهما ربهما قائلا لهما : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة التي نهيتكما عن أكلها ، وهذا عتاب من الله لهما وتوبيخ حيث لم يحذرا ما حذرهما منه وأقل لكما معطوف على أنهكما . إن الشيطان لكما عدو مبين أي مظهر للعداوة .
قوله : قالا ربنا ظلمنا أنفسنا جملة استئنافية مبنية على تقدير سؤال كأنه قيل : فماذا قالا ؟ وهذا منهما اعتراف بالذنب وأنهما ظلما أنفسهما مما وقع منهما من المخالفة ، ثم قالا : وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .
وجملة قال اهبطوا استئناف كالتي قبلها ، والخطاب لآدم وحواء وذريتهما ، أو لهما ولإبليس ، وجملة " بعضكم لبعض عدو " في محل نصب على الحال ولكم في الأرض مستقر أي موضع استقرار ولكم متاع تتمتعون به في الدنيا وتنتفعون به من المطعم والمشرب ونحوهما إلى حين أي إلى وقت ، وهو وقت موتكم .
وجملة قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون استئنافية كالتي قبلها : أي في الأرض تحيون ، وفيها يأتيكم الموت ، ومنها تخرجون إلى دار الآخرة ، ومثله قوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ( طه : 55 ) واعلم أنه قد سبق شرح هذه القصة مستوفى في البقرة فارجع إليه .
وقد أخرج في نوادر الأصول الحكيم الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن وابن عساكر ، في قوله : وهب بن منبه ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما قال : كان على كل واحد منهما نور لا يبصر كل واحد منهما سوءة صاحبه ، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما .
وأخرج عبد بن حميد ، عن وابن أبي حاتم ، قال : أتاهما إبليس فقال : ما ابن عباس ، نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين مثله ، يعني مثل الله عز وجل ، فلم يصدقاه حتى دخل في جوف الحية فكلمهما .
وأخرج أبو الشيخ ، عن في الآية ابن عباس ، إلا أن تكونا ملكين فإن أخطأكما أن تكونا ملكين لم يخطئكما أن تكونا خالدين فلا تموتان فيها أبدا وقاسمهما قال : حلف لهما إني لكما لمن الناصحين .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن في قوله : فدلاهما بغرور قال : مناهما بغرور . محمد بن كعب
وأخرج ابن المنذر ، عن وابن أبي شيبة ، عكرمة قال : لباس كل دابة منها ، ولباس الإنسان الظفر ، فأدركت آدم التوبة عند ظفره .
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي عن وابن عساكر ، قال : كان لباس ابن عباس ، آدم وحواء كالظفر ، فلما أكلا من الشجرة لم يبق عليهما إلا مثل الظفر وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة قال : ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما .
وأخرج عنه قال : لما أسكن الله ابن أبي حاتم ، آدم الجنة كساه سربالا من الظفر ، فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقي في أطراف أصابعه .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه نحوه من طريق أخرى .
وأخرج عن ابن أبي حاتم ، قال : كان أنس بن مالك آدم في الجنة الياقوت ، فلما عصى قلص فصار الظفر . لباس
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : وطفقا يخصفان قال : يرقعان كهيئة الثوب .
وأخرج عن ابن أبي حاتم ، السدي ، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة قال آدم : رب إنه حلف لي بك ولم أكن أعلم أن أحدا من خلقك يحلف بك إلا صادقا .
وأخرج عن عبد بن حميد ، الحسن : قالا ربنا ظلمنا أنفسنا الآية قال : هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه .
وأخرج عن عبد بن حميد ، الضحاك ، مثله .