هذا حكم آخر من أحكام الجهاد .
ومعنى ما كان لنبي ما صح له وما استقام ، قرأ أبو عمرو وسهيل ويعقوب ويزيد والمفضل " أن تكون " بالفوقية وقرأ الباقون بالتحتية ، وقرأ أيضا يزيد والمفضل " أسارى " وقرأ الباقون " أسرى " والأسرى جمع أسير ، مثل قتلى وقتيل ، وجرحى وجريح .
ويقال في جمع أسير أيضا أسارى بضم الهمزة وفتحها ، وهو مأخوذ من الأسر ، وهو القد ، لأنهم كانوا يشدون به الأسير ، فسمي كل أخيذ وإن لم يشد بالقد أسيرا ، قال الأعشى :
وقيدني الشعر في بيته كما قيدت الأسرات الحمارا
وقال : الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون ، والأسارى هم الموثقون رقا . أبو عمرو بن العلاءوالإثخان : كثرة القتل والمبالغة فيه ، تقول العرب : أثخن فلان في هذا الأمر : أي بالغ فيه .
فالمعنى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يبالغ في قتل الكافرين ويستكثر من ذلك ، وقيل : معنى الإثخان : التمكن ، وقيل : هو القوة .
أخبر الله - سبحانه - أن قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم وفدائهم ، ثم لما كثر المسلمون رخص الله في ذلك فقال : فإما منا بعد وإما فداء ( محمد : 4 ) كما يأتي في سورة القتال إن شاء الله .
قوله : تريدون عرض الحياة الدنيا أي نفعها ومتاعها بما قبضتم من الفداء ، وسمي عرضا لأنه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابل الجواهر والله يريد الآخرة أي يريد لكم الدار الآخرة بما يحصل لكم من الثواب في الإثخان بالقتل .
وقرئ " يريد الآخرة " بالجر على تقدير مضاف وهو المذكور قبله : أي والله يريد عرض الآخرة والله عزيز لا يغالب حكيم في كل أفعاله .
قوله : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .
اختلف المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق ما هو ؟ على أقوال : الأول : ما سبق في علم الله من أنه سيحل لهذه الأمة الغنائم بعد أن كانت محرمة على سائر الأمم ، والثاني : أنه مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر كما في الحديث الصحيح : أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . إن الله اطلع على
القول الثالث : هو أنه لا يعذبهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم كما قال - سبحانه - : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ( الأنفال : 33 ) .
القول الرابع : أنه لا يعذب أحدا بذنب فعله جاهلا لكونه ذنبا .
القول الخامس : أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر .
القول السادس : أنه لا يعذب أحدا إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ولم يتقدم نهي عن ذلك .
وذهب إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها . لمسكم أي لحل بكم ابن جرير الطبري فيما أخذتم أي لأجل ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم .
والفاء في فكلوا مما غنمتم لترتيب ما بعدها على سبب محذوف ، أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم ويجوز أن تكون عاطفة على مقدر محذوف ، أي اتركوا الفداء فكلوا مما غنمتم من غيره ، وقيل : إن ما عبارة عن الفداء ، أي كلوا من الفداء الذي غنمتم فإنه من جملة الغنائم التي أحلها الله لكم و حلالا طيبا منتصبان على الحال أو صفة المصدر المحذوف ، أي أكلا حلالا طيبا واتقوا الله فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم يأذن الله لكم به إن الله غفور لما فرط منكم رحيم بكم ؛ فلذلك رخص لكم في أخذ الفداء في مستقبل الزمان .
وقد أخرج أحمد ، عن أنس قال : بدر فقال : إن الله قد أمكنكم منهم ، فقام استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس في الأسارى يوم فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم ، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم ، وإنما هم إخوانكم بالأمس ، فقام عمر بن الخطاب عمر فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم ، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عاد فقال مثل ذلك فقام فقال : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء ، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء ، فأنزل الله : أبو بكر الصديق لولا كتاب من الله سبق الآية .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وأحمد ، ، وحسنه ، والترمذي وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم ، والطبراني والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن قال : ابن مسعود العباس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وقال عمر : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ، قدمهم فاضرب أعناقهم ، وقال : يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا ، فقال عبد الله بن رواحة العباس وهو يسمع : قطعت رحمك فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم ولم يرد عليهم شيئا ، فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال أناس : يأخذ بقول عمر ، وقال قوم : يأخذ بقول ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ، مثلك يا عبد الله بن رواحة أبا بكر مثل إبراهيم - عليه السلام - قال : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( إبراهيم : 36 ) [ ص: 551 ] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى - عليه السلام - قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( المائدة : 118 ) ، ومثلك يا عمر مثل نوح - عليه السلام - إذ قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ( نوح : 26 ) ، ومثلك يا عمر مثل موسى - عليه السلام - إذ قال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ( يونس : 88 ) أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق ، فقال عبد الله : يا رسول الله إلا فإني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إلا سهيل بن بيضاء ، فأنزل الله : سهيل بن بيضاء ما كان لنبي أن يكون له أسرى الآية . لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن علي قال : بدر : إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتم واستمتعتم بالفداء ، واستشهد منكم بعدتهم ، فكان آخر السبعين استشهد باليمامة ثابت بن قيس . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسارى يوم
وأخرج عبد الرزاق ، في مصنفه ، عن وابن أبي شيبة عبيدة نحوه .
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه ، عن قال : ابن عمر العباس فيمن أسره ، أسره رجل من الأنصار وقد وعدته الأنصار أن يقتلوه ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس ، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه ، فقال له عمر : فآتيهم ؟ قال : نعم ، فأتى عمر الأنصار فقال : أرسلوا العباس ، فقالوا : لا والله لا نرسل ، فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضا ؟ ، قالوا : فإن كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضا فخذه ، فأخذه عمر ، فلما صار في يده قال له : يا عباس أسلم ، فوالله إن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه إسلامك ، قال : فاستشار رسول الله أبا بكر فقال أبو بكر : عشيرتك فأرسلهم ، فاستشار عمر فقال : اقتلهم ، ففاداهم رسول الله ، فأنزل الله : ما كان لنبي أن يكون له أسرى الآية . لما أسر الأسارى يوم بدر أسر
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن ، في قوله : ابن عباس حتى يثخن في الأرض يقول حتى يظهروا على الأرض .
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، وابن جرير وابن المنذر ، عن مجاهد قال : الإثخان هو القتل .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن مجاهد أيضا في الآية قال : ثم نزلت الرخصة بعد ، إن شئت فمن ، وإن شئت ففاد .
وأخرج ابن المنذر ، عن قتادة ، تريدون عرض الدنيا قال : أراد أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر الفداء ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف .
وأخرج ، عن عكرمة ابن أبي حاتم تريدون عرض الدنيا قال : الخراج .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم مجاهد في قوله : لولا كتاب من الله سبق قال : سبق لهم المغفرة .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن ، قال : ما سبق لأهل بدر من السعادة . سعيد بن جبير
وأخرج ، النسائي وابن مردويه ، وأبو الشيخ ، عن ، قال : سبقت لهم من الله الرحمة قبل أن يعملوا بالمعصية . ابن عباس
وأخرج أبو حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : سبق أن لا يعذب أحدا حتى يبين له ويتقدم إليه .