قوله : براءة من الله ورسوله برئت من الشيء أبرأ براءة ، وأنا منه بريء : إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه ، وبراءة مرتفعة على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي هذه براءة ، ويجوز أن ترتفع على الابتداء لأنها نكرة موصوفة ، والخبر إلى الذين عاهدتم .
وقرأ عيسى بن عمر " براءة " بالنصب على تقدير " اسمعوا براءة " ، أو على تقدير " التزموا براءة " ؛ لأن فيها معنى الإغراء ، و " من " في قوله : من الله لابتداء الغاية متعلق بمحذوف وقع صفة : أي : واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم .
وقرأ روح وزيد بنصب " رسوله " ، وقرأ الباقون بالرفع .
والعهد : العقد الموثق باليمين .
والخطاب في عاهدتم للمسلمين ، وقد كانوا عاهدوا مشركي مكة وغيرهم بإذن من الله ومن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والمعنى : الإخبار للمسلمين بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدة بسبب ما وقع من الكفار من النقض ، فصار النبذ إليهم بعهدهم واجبا على المعاهدين من المسلمين ، ومعنى براءة الله - سبحانه - : وقوع الإذن منه - سبحانه - بالنبذ من المسلمين لعهد المشركين بعد وقوع النقض منهم ، وفي ذلك من التفخيم لشأن البراءة والتهويل لها والتسجيل على المشركين بالذل والهوان ما لا يخفى .
قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر هذا أمر منه - سبحانه - بالسياحة بعد الإخبار بتلك البراءة ، والسياحة : السير ، يقال : ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا ، ومنه سيح الماء في الأرض وسيح الخيل ، ومنه قول طرفة بن العبد :
لو خفت هذا منك ما نلتني حتى ترى خيلا أمامي تسيح
ومعنى الآية أن الله - سبحانه - بعد أن أذن بالنبذ إلى المشركين بعهدهم ، أباح للمشركين الضرب في الأرض والذهاب إلى حيث يريدون والاستعداد للحرب هذه الأربعة الأشهر ، وليس المراد من الأمر بالسياحة تكليفهم بها .قال محمد بن إسحاق وغيره : إن المشركين صنفان : صنف كانت مدة عهدهم أقل من أربعة أشهر ، فأمهل تمام أربعة أشهر ، والآخر كانت أكثر من ذلك فقصر على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه ، وهو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث يوجد ، وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر ، فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك خمسون يوما : عشرون من ذي [ ص: 555 ] الحجة وشهر محرم .
وقال الكلبي : إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد دون أربعة أشهر ، ومن كان عهده أكثر من ذلك فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ( التوبة : 4 ) ورجح هذا ، وغيره ، وسيأتي في آخر البحث من الرواية ما يتضح به معنى الآية : ابن جرير واعلموا أنكم غير معجزي الله أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ، ولكن لمصلحة ليتوب من تاب ، وفي ذلك ضرب من التهديد كأنه قيل : افعلوا في هذه المدة كل ما أمكنكم من إعداد الآلات والأدوات ، فإنكم لا تفوتون الله وهو مخزيكم : أي مذلكم ومهينكم في الدنيا بالقتل والأسر ، وفي الآخرة بالعذاب ، وفي وضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى أن سبب هذا الإخزاء هو الكفر ، ويجوز أن يكون المراد جنس الكافرين فيدخل فيه المخاطبون دخولا أوليا .
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ارتفاع " أذان " على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده على ما تقدم في ارتفاع " براءة " ، والجملة هذه معطوفة على جملة قوله : براءة من الله ورسوله .
وقال : إن قوله : وأذان معطوف على قوله " براءة " . الزجاج
واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لكان أذانا مخبرا عنه بالخبر الأول ، وهو إلى الذين عاهدتم من المشركين وليس ذلك بصحيح ، بل الخبر هو إلى الناس والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ، ومعنى قوله : إلى الناس التعميم في هذا : أي أنه إيذان من الله إلى كافة الناس غير مختص بقوم دون قوم ، فهذه الجملة متضمنة للإخبار بوجوب الإعلام لجميع الناس ، والجملة الأولى متضمنة للإخبار بالبراءة إلى المعاهدين خاصة ، و يوم الحج ظرف لقوله وأذان ، ووصفه بالأكبر لأنه يجتمع فيه الناس ، أو لكون معظم أفعال الحج فيه .
وقد اختلف العلماء في تعيين هذا اليوم المذكور في الآية ، فذهب جمع منهم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة ومجاهد أنه يوم النحر ، ورجحه ، . ابن جرير
وذهب آخرون منهم عمر ، وطاوس أنه يوم عرفة . وابن عباس
والأول أرجح ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من بعثه لإبلاغ هذا إلى المشركين أن يبلغهم يوم النحر .
قوله : أن الله بريء من المشركين ورسوله قرئ بفتح أن على تقدير : بأن الله بريء من المشركين ، فحذفت الباء تخفيفا .
وقرئ بكسرها ؛ لأن في الإيذان معنى القول ، وارتفاع " رسوله " على أنه معطوف على موضع اسم " أن " ، أو على الضمير في " بريء " ، أو على أنه مبتدأ وخبره محذوف ، والتقدير : ورسوله بريء منهم ، وقرأ الحسن وغيره " ورسوله " بالنصب عطفا على لفظ اسم " أن " .
وقرئ " ورسوله " بالجر على أن الواو للقسم ، روي ذلك عن الحسن ، وهي قراءة ضعيفة جدا ، إذ لا معنى للقسم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاهنا مع ما ثبت من النهي عن الحلف بغير الله ، وقيل : إنه مجرور على الجوار .
قوله : فإن تبتم أي من الكفر ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، قيل : وفائدة هذا الالتفات زيادة التهديد ، والضمير في قوله : فهو راجع إلى التوبة المفهومة من تبتم خير لكم مما أنتم فيه من الكفر وإن توليتم أي أعرضتم عن التوبة وبقيتم على الكفر فاعلموا أنكم غير معجزي الله أي : غير فائتين عليه ، بل هو مدرككم فمجازيكم بأعمالكم .
قوله : وبشر الذين كفروا بعذاب أليم هذا تهكم بهم ، وفيه من التهديد ما لا يخفى .
وقد أخرج ، ابن أبي شيبة ، وابن جرير وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج ، ثم قال : إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك ، فأرسل أبا بكر وعليا فطافا في الناس بذي المجاز ، وبأمكنتهم التي كانوا يبيعون بها ، أو بالموسم كله ، فآذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر ، وهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات ، عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم وآذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يموتوا .
وأخرج في زوائد المسند ، عبد الله بن أحمد بن حنبل وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن علي قال : أبا بكر ليقرأها على أهل مكة ، ثم دعاني فقال لي : أدرك أبا بكر ، فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه فاقرأه على أهل مكة ، فلحقته فأخذت الكتاب منه ، ورجع أبو بكر ، وقال : يا رسول الله نزل في شيء ، قال : لا ، ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك . لما نزلت عشر آيات من " براءة " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا
وأخرج ، وأحمد ، ابن أبي شيبة ، وحسنه والترمذي وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، من حديث أنس نحوه .
وأخرج ابن مردويه ، من حديث نحوه أيضا . سعد بن أبي وقاص
وأخرج أحمد ، ، والنسائي وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن قال : أبي هريرة علي حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة بـ " براءة " ، فكنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فإن أجله وأمده إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك . كنت مع
وأخرج ، البخاري ومسلم ، وغيرهما ، عن قال : أبي هريرة فأمره أن يؤذن بـ " براءة " فأذن علي في يوم النحر بـ " براءة " : أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان علي بن أبي طالب . بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ثم أردف النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأخرج الترمذي ، وحسنه ، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن : ابن عباس أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء [ ص: 556 ] الكلمات ، ثم أتبعه عليا وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ، فانطلقا فحجا ، فقام علي في أيام التشريق فنادى : إن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، ولا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ، فكان علي ينادي ، فإذا أعيا قام أبو بكر ينادي بها . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث
وأخرج سعيد بن منصور ، ، وأحمد ، وابن أبي شيبة ، وصححه والترمذي وابن المنذر ، والنحاس ، والحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن زيد بن تبيع قال : سألت عليا بأي شيء بعثت مع أبي بكر في الحج ؟ قال : بعثت بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يجتمع مؤمن وكافر بالمسجد الحرام بعد عامهم هذا ، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فعهده إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر .
وأخرج ابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم ، في قوله : ابن عباس براءة من الله ورسوله الآية قال : حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاءوا ، وحد أجل من ليس له عهد انسلاخ الأربعة الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم خمسين ليلة ، فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ونقض ما سمي لهم من العهد والميثاق ، وأذهب الشرط الأول إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ( التوبة : 7 ) يعني أهل مكة .
وأخرج النحاس عنه نحو هذا ، وقال : ولم يعاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا أحدا .
وأخرج عبد الرزاق ، ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم والنحاس ، عن الزهري فسيحوا في الأرض أربعة أشهر قال : نزلت في شوال فهي الأربعة أشهر : شوال ، ذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم .
وأخرج ، عن ابن زيد في قوله : ابن أبي حاتم وأذان من الله ورسوله قال : هو إعلام من الله ورسوله .
وأخرج الترمذي ، وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن علي قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يوم الحج الأكبر فقال : يوم النحر .
وأخرجه ، ابن أبي شيبة ، والترمذي وأبو الشيخ ، عنه من قوله .
وأخرج أبو داود ، والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن قرط قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : . أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر
وأخرج ابن مردويه ، عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ابن أبي أوفى . يوم الأضحى هذا يوم الحج الأكبر
وأخرج ، تعليقا البخاري وأبو داود ، وابن ماجه ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية عن : ابن عمر . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال : أي يوم هذا ؟ ، قالوا : يوم النحر ، قال : هذا يوم الحج الأكبر
وأخرج ، البخاري ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي وابن مردويه ، عن قال : بعثني أبي هريرة أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ويوم الحج الأكبر : يوم النحر ، والحج الأكبر : الحج ، وإنما قيل : الأكبر من أجل قول الناس : الحج الأصغر ، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك ، وأنزل الله في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ( التوبة : 28 ) الآية .
وأخرج عن الطبراني سمرة بن جندب ، قال : أن رسول الله قال زمن الفتح : إن هذا عام الحج الأكبر النصارى واليهود في ثلاثة أيام متتابعات ، فاجتمع حج المسلمين والمشركين والنصارى واليهود في ستة أيام متتابعات ، ولم يجتمع منذ خلق السماوات والأرض كذلك قبل العام ، ولا يجتمع بعد العام حتى تقوم الساعة . اجتمع حج المسلمين وحج المشركين في ثلاثة أيام متتابعات ، واجتمع
وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم الحسن أنه سئل عن يوم الحج الأكبر فقال : ما لكم وللحج الأكبر ؟ ذاك عام حج فيه أبو بكر ، استخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحج بالناس ، واجتمع فيه المسلمون والمشركون فلذلك سمي الحج الأكبر ، ووافق عيد اليهود والنصارى .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم قال : الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر ، ألم تر أن الإمام يخطب فيه . سعيد بن المسيب
وأخرج ، ابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : المسور بن مخرمة يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر .
وأخرج ابن سعد ، ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قال : الحج الأكبر يوم عرفة . عمر بن الخطاب
وأخرج ، عن ابن جرير أبي الصهباء البكري قال : سألت عن يوم الحج الأكبر فقال : يوم عرفة . علي بن أبي طالب
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن ، قال : إن يوم عرفة يوم الحج الأكبر . ابن عباس
وأخرج ، عن ابن جرير الزبير نحوه .
ولا يخفاك أن الأحاديث الواردة في كون يوم النحر هو يوم الحج الأكبر هي ثابتة في الصحيحين وغيرهم من طرق ، فلا تقوى لمعارضتها هذه الروايات المصرحة بأنه يوم عرفة .
وأخرج ، عن ابن أبي شيبة ، أنه سئل : هذا الحج الأكبر ، فما الحج الأصغر ؟ قال : عمرة في رمضان . الشعبي
وأخرج ، عن ابن أبي شيبة ، قال : سألت ابن إسحاق عن الحج الأكبر فقال : الحج الأكبر يوم النحر ، والحج الأصغر العمرة . عبد الله بن شداد
وأخرج ، عن ابن أبي شيبة مجاهد نحوه .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم قال : سئل محمد بن مسعود عن البشارة تكون في المكروه فقال : ألم تسمع قوله : سفيان بن عيينة وبشر الذين كفروا بعذاب أليم .