قوله : أم يقولون افتراه أنكر سبحانه عليهم قولهم : إن ما أوحي إلى نوح مفترى ، فقال : أم يقولون افتراه ثم أمره أن يجيب بكلام منصف ، فقال : قل إن افتريته فعلي إجرامي بكسر الهمزة على قراءة الجمهور ، مصدر أجرم : أي فعل ما يوجب الإثم ، وجرم وأجرم بمعنى ، قاله النحاس ، والمعنى : فعلي إثمي أو جزاء كسبي .
ومن قرأ بفتح الهمزة ، قال : هو جمع ذكره النحاس وأنا بريء مما تجرمون أي من إجرامكم بسبب ما تنسبونه إلي من الافتراء ، قيل : وفي الكلام حذف والتقدير : لكن ما افتريته ، فالإجرام وعقابه ليس إلا عليكم وأنا بريء منه .
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية ، فقيل : إنها حكاية عن نوح وما قاله لقومه ، وقيل : هي حكاية عن المحاورة الواقعة بين نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكفار مكة .
والأول أولى ، لأن الكلام قبلها وبعدها مع نوح عليه السلام .
قوله : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن أنه لن يؤمن في محل رفع على أنه نائب الفاعل الذي لم يسم .
ويجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير الباء : أي بأنه ، وفي الكلام تأييس له من إيمانهم ، وأنهم مستمرون على كفرهم ، مصممون عليه ، لا يؤمن أحد منهم إلا من قد سبق إيمانه فلا تبتئس بما كانوا يفعلون البؤس : الحزن ، أي [ ص: 657 ] فلا تحزن ، والبائس : المستكين ، فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين لأن الابتئاس حزن في استكانة .
ومنه قول الشاعر :
وكم من خليل أو حميم رزئته فلم أبتئس والرزء فيه جليل
ثم إن الله سبحانه لما أخبره أنهم لا يؤمنون ألبتة عرفه وجه إهلاكهم ، وألهمه الأمر الذي يكون به خلاصه وخلاص من آمن معه ، فقال : واصنع الفلك بأعيننا ووحينا أي اعمل السفينة متلبسا بأعيننا : أي بمرأى منا ، والمراد بحراستنا لك وحفظنا لك ، وعبر عن ذلك بالأعين لأنها آلة الرؤية ، والرؤية هي التي تكون بها الحراسة والحفظ في الغالب ، وجمع الأعين للتعظيم لا للتكثير ، وقيل المعنى : بأعيننا أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على حفظك ، وقيل : بأعيننا بعلمنا ، وقيل بأمرنا .ومعنى بوحينا : بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تطلب إمهالهم ، فقد حان وقت الانتقام منهم ، وجملة إنهم مغرقون للتعليل : أي لا تطلب منا إمهالهم ، فإنه محكوم منا عليهم بالغرق وقد مضى به القضاء فلا سبيل إلى دفعه ولا تأخيره ، وقيل : المعنى ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم مغرقون في الوقت المضروب لذلك ، لا يتأخر إغراقهم عنه ، وقيل : المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه .
ويصنع الفلك أي وطفق يصنع الفلك ، أو وأخذ يصنع الفلك ، وقيل : هو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة ، وجملة وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه في محل نصب على الحال : أي استهزءوا به لعمله السفينة .
قال الأخفش : يقال : سخرت به ومنه . والكسائي
وفي وجه سخريتهم منه قولان : أحدهما : أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة ، فيقولون : يا نوح صرت بعد النبوة نجارا .
والثاني : أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة ، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك ، قالوا : يا نوح ما تصنع ؟ قال : أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله ، وسخروا به .
ثم أجاب عليهم بقوله : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل : فماذا قال لهم ؟ والمعنى : إن تسخروا منا بسبب عملنا للسفينة اليوم فإنا نسخر منكم غدا عند الغرق .
ومعنى السخرية هنا : الاستجهال ، أي إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون ، واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم ، وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده ، والتشبيه في قوله : كما تسخرون لمجرد التحقق والوقوع ، أو التجدد والتكرر ، والمعنى : إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك ، أو متجددة متكررة كما تسخرون منا كذلك ، وقيل معناه : نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق ، وفيه نظر فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية إذ هم في شغل شاغل عنها .
ثم هددهم بقوله : فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه وهو عذاب الغرق في الدنيا ويحل عليه عذاب مقيم وهو عذاب النار الدائم ، ومعنى يحل : يجعل المؤجل حالا ، مأخوذ من حلول الدين المؤجل ، ومن موصولة في محل نصب ، ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع : أي أينا يأتيه عذاب يخزيه ، وقيل : في موضع رفع بالابتداء ، و يأتيه الخبر ، و يخزيه صفة لعذاب .
قال : إن ناسا من الكسائي أهل الحجاز يقولون سوف تعلمون ، قال : ومن قال ستعلمون أسقط الواو والفاء جميعا ، وجوز الكوفيون سوف تعلمون ومنعه البصريون ، والمراد بعذاب الخزي : العذاب الذي يخزي صاحبه ويحل عليه العار .
قوله : حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور حتى هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية وجعلت غاية لقوله : واصنع الفلك بأعيننا .
والتنور اختلف في تفسيرها على أحوال : الأول : أنها وجه الأرض والعرب تسمي وجه الأرض تنورا ، روي ذلك عن ابن عباس وعكرمة والزهري . وابن عيينة
الثاني : أنه تنور الخبز الذي يخبزونه فيه ، وبه قال مجاهد وعطية والحسن ، وروي عن أيضا . ابن عباس
الثالث : أنه موضع اجتماع الماء في السفينة ، روي عن الحسن .
الرابع : أنه طلوع الفجر ، من قولهم تنور الفجر ، روي عن . علي بن أبي طالب
الخامس : أنه مسجد الكوفة ، روي عن علي أيضا ومجاهد ، قال مجاهد : كان ناحية التنور بالكوفة .
السادس : أنه أعالي الأرض والمواضع المرتفعة ، قاله قتادة .
السابع : أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة ، روي ذلك عن عكرمة .
الثامن : أنه موضع بالهند ، قال : كان تنور ابن عباس آدم بالهند .
قال النحاس : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ، لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض ، قال : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا [ القمر 11 ، 12 ] فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة ، هكذا قال ، وفيه نظر ، فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع ، ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء .
إلا إذا كان المراد مجرد العلامة كما ذكره آخرا .
وقد ذكر أهل اللغة أن الفور : الغليان ، والتنور : اسم عجمي عربته العرب ، وقيل : معنى وفار التنور : التمثيل بحضور العذاب كقولهم : حمي الوطيس : إذا اشتد الحرب ، ومنه قول الشاعر :
تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور
يريد الحرب .
قوله : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين أي قلنا : يا نوح احمل في السفينة من كل زوجين مما في الأرض من الحيوانات اثنين ذكرا وأنثى .
وقرأ حفص من كل بتنوين كل : أي من كل شيء زوجين ، والزوجان للاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، ويطلق على كل واحد منهما زوج كما يقال للرجل زوج وللمرأة زوج ، ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلا للفرد ، ويطلق الزوج على الضرب والصنف ، ومثله قوله تعالى : وأنبتت من كل زوج بهيج [ الحج : 5 ] ، ومثله قول الأعشى :
وكل ضرب من الديباج يلبسه أبو حذافة مخبو بذاك معا [ ص: 658 ] أراد كل صنف من الديباج وأهلك عطف على زوجين ، أو على اثنين على قراءة حفص ، وعلى محل كل زوجين ، فإنه في محل نصب باحمل ، أو على اثنين على قراءة الجمهور ، والمراد : امرأته وبنوه ونساؤهم إلا من سبق عليه القول أي من تقدم الحكم عليه بأنه من المغرقين في قوله : ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون على الاختلاف السابق فيهم ، فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك ومن قال : المراد بهم ولده كنعان وامرأته واعلة أم كنعان جعل الاستثناء من أهلك ، ويكون متصلا إن أريد بالأهل ما هو أعم من المسلم والكافر منهم ، ومنقطعا إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط .
قوله : ومن آمن معطوف على ( أهلك ) : أي واحمل في السفينة من آمن من قومك ، وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم ، أو للاستثناء منهم على القول الآخر .
ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به فقال : وما آمن معه إلا قليل قيل : هم ثمانون إنسانا : منهم ثلاثة من بنيه ، وهو سام ، وحام ، ويافث ، وزوجاتهم ، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين ، وهي موجودة بناحية الموصل ، وقيل كانوا عشرة ، وقيل سبعة ، وقيل كانوا اثنين وسبعين ، وقيل غير ذلك .
قوله : وقال اركبوا فيها القائل نوح ، وقيل الله سبحانه .
والأول أولى لقوله : إن ربي لغفور رحيم والركوب : العلو على ظهر الشيء حقيقة نحو ركب الدابة ، أو مجازا نحو ركبه الدين ، وفي الكلام حذف : أي اركبوا الماء في السفينة فلا يرد أن ركب يتعدى بنفسه ، وقيل : إن الفائدة في زيادة في أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف السفينة لا على ظهرها ، وقيل : إنها زيدت لرعاية جانب المحلية في السفينة كما في قوله : فإذا ركبوا في الفلك [ العنكبوت 65 ] ، وقوله : حتى إذا ركبا في السفينة [ الكهف 71 ] قيل : ولعل نوحا قال هذه المقالة بعد إدخال ما أمر بحمله من الأزواج ، كأنه قيل : فحمل الأزواج وأدخلها في الفلك ، وقال للمؤمنين ، ويمكن أن يقال : إنه أمر بالركوب كل من أمر بحمله من الأزواج والأهل والمؤمنين ، ولا يمتنع أن يفهم خطابه من لا يعقل من الحيوانات ، أو يكون هذا على طريقة التغليب .
قوله : بسم الله متعلق بـ اركبوا ، أو حال من فاعله : أي مسمين الله ، أو قائلين : بسم الله مجراها ومرساها .
قرأ أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ منهم على أنهما اسما زمان ، وهما في موضع نصب على الظرفية : أي وقت مجراها ومرساها ، ويجوز أن يكونا مصدرين : أي وقت إجرائها وإرسائها .
وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وحفص مجراها بفتح الميم ، ومرساها بضمها ، وقرأ بفتحها فيهما . يحيى بن وثاب
وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري مجريها ومرسيها على أنهما وصفان لله ، ويجوز أن يكونا في موضع رفع بإضمار مبتدأ : أي هو مجريها ومرسيها وأبو رجاء العطاردي إن ربي لغفور للذنوب رحيم بعباده ، ومن رحمته إنجاء هذه الطائفة تفضلا منه لبقاء هذا الجنس الحيواني ، وعدم استئصاله بالغرق .
قوله : وهي تجري بهم في موج كالجبال هذه الجملة متصلة بجملة محذوفة دل عليها الأمر بالركوب ، والتقدير : فركبوا مسمين وهي تجري بهم ، والموج جمع موجة ، وهي ما ارتفع عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح ، وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض .
قوله : ونادى نوح ابنه هو كنعان ، قيل : وكان كافرا ، واستبعد كون نوح ينادي من كان كافرا مع قوله : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح 26 ] وأجيب بأنه كان منافقا فظن نوح أنه مؤمن ، وقيل : حملته شفقة الأبوة على ذلك ، وقيل : إنه كان ابن امرأته ولم يكن بابنه ، ويؤيده ما روي أن عليا قرأ ونادى نوح ابنها ، وقيل : إنه كان لغير رشدة ، وولد على فراش نوح .
ورد بأن قوله : ونادى نوح ابنه ، وقوله : إن ابني من أهلي يدفع ذلك على ما فيه من عدم صيانة منصب النبوة وكان في معزل أي في مكان عزل فيه نفسه عن قومه وقرابته بحيث لم يبلغه قول نوح : اركبوا فيها ، وقيل في معزل من دين أبيه ، وقيل من السفينة ، قيل : وكان هذا النداء قبل أن يستيقن الناس الغرق ، بل كان في أول فور التنور .
قوله : يابني اركب معنا .
قرأ عاصم بفتح الياء ، والباقون بكسرها ، فأما الكسر فلجعله بدلا من ياء الإضافة ، لأن الأصل يا بني ، وأما الفتح فلقلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف ، ثم حذف الألف وبقيت الفتحة لتدل عليه .
قال النحاس : وقراءة عاصم مشكلة .
وقال أبو حاتم : أصله يا بنياه ثم تحذف ، وقد جعل للفتح وجهين ، وللكسر وجهين . الزجاج
أما الفتح بالوجه الأول ما ذكرناه ، والوجه الثاني : أن تحذف الألف لالتقاء الساكنين .
وأما الكسر فالوجه الأول كما ذكرناه ، والثاني : أن تحذف لالتقاء الساكنين كذا حكى عنه النحاس .
وقرأ أبو عمرو والكسائي وحفص اركب معنا بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج .
وقرأ الباقون بعدم الإدغام .
ولا تكن مع الكافرين نهاه عن الكون مع الكافرين : أي خارج السفينة ، ويمكن أن يراد بالكون معهم الكون على دينهم .
ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه فقال : قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي يمنعني بارتفاعه من وصول الماء إلي ، فأجاب عنه نوح بقوله : لا عاصم اليوم من أمر الله أي لا مانع فإنه يوم قد حق فيه العذاب وجف القلم بما هو كائن فيه ، نفى جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجا أوليا ، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره .
والاستثناء ، قال : هو منقطع : أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه ، فيكون الزجاج من رحم في موضع نصب ، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا على أن يكون عاصم بمعنى معصوم : أي لا معصوم اليوم من أمر الله إلا [ ص: 659 ] من رحمه الله : مثل ماء دافق [ الطارق 6 ] عيشة راضية [ الحاقة 21 ] ومنه قول الشاعر :
دع المكارم لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وقرئ إلا من رحم على البناء للمفعول وحال بينهما الموج أي حال بين نوح وابنه فتعذر خلاصه من الغرق ، وقيل : بين ابن نوح وبين الجبل ، والأول أولى ، لأن تفرع فكان من المغرقين عليه يدل على الأول لا على الثاني ، لأن الجبل ليس بعاصم .
قوله : وقيل يا أرض ابلعي ماءك يقال : بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع ، وبلع يبلع مثل حمد يحمد لغتان حكاهما الكسائي : والبلع الشرب ، ومنه البالوعة ، وهي الموضع الذي يشرب الماء ، والازدراد ، يقال : بلع ما في فمه من الطعام إذا ازدرده ، واستعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيل التدريج والفراء ويا سماء أقلعي الإقلاع الإمساك ، يقال : أقلع المطر إذا انقطع .
والمعنى : أمر السماء بإمساك الماء عن الإرسال ، وقدم نداء الأرض على السماء لكون ابتداء الطوفان منها وغيض الماء أي نقص ، يقال : غاض الماء وغضته أنا وقضي الأمر أي أحكم وفرغ منه : يعني أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام واستوت على الجودي أي استقرت السفينة على الجبل المعروف بالجودي ، وهو جبل بقرب الموصل ، وقيل : إن الجودي اسم لكل جبل ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل :
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجودي والجمد
ويقال : إنه من جبال الجنة فلذا استوت عليه وقيل بعدا للقوم الظالمين القائل هو الله سبحانه ليناسب صدر الآية ، وقيل : هو نوح وأصحابه .
والمعنى : وقيل هلاكا للقوم الظالمين ، وهو من الكلمات التي تختص بدعاء السوء ، ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك ، وللإيماء إلى قوله : ولا تخاطبني في الذين ظلموا [ هود 37 ] .
وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عنه الوصف ، وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة ، الثابتين الأقدام في علم البيان ، الراسخين في علم اللغة ، المطلعين على ما هو مدون من خطب مصاقع خطباء العرب وأشعار بواقع شعرائهم ، المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها .
وقد تعرض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم فأطالوا وأطابوا ، رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة .
وقد أخرج عن ابن أبي حاتم قتادة في قوله : فعلي إجرامي قال : عملي وأنا بريء مما تجرمون أي مما تعملون .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وذلك حين دعا عليهم نوح قال : لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح 26 ] .
وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وأبو الشيخ عن الحسن قال : إن نوحا لم يدع على قومه حتى نزلت الآية هذه ، فانقطع عند ذلك رجاؤه منهم فدعا عليهم .
وأخرج عن ابن جرير في قوله : ابن عباس فلا تبتئس قال : فلا تحزن .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عنه في قوله : واصنع الفلك بأعيننا ووحينا قال : بعين الله ووحيه .
وأخرج عنه أيضا قال : لم يعلم نوح كيف يصنع الفلك ، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر . ابن أبي حاتم
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم ، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ، ثم قطعها ثم جعل يعملها سفينة ويمرون فيسألونه فيقول أعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون يعمل سفينة في البر ، وكيف تجري ؟ قال : سوف تعلمون ، فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك خشيته أم الصبي عليه ، وكانت تحبه حبا شديدا ، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب بها الماء ، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي . كان
وقد ضعفه الذهبي في مستدركه على مستدرك الحاكم .
وقد روي في صفة السفينة وقدرها أحاديث وآثار ليس في ذكرها هنا كثير فائدة .
وأخرج ابن المنذر عن في قوله : ابن عباس من يأتيه عذاب يخزيه قال : هو الغرق ويحل عليه عذاب مقيم قال : هو الخلود في النار .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عنه قال : كان بين دعوة نوح وبين هلاك قومه ثلاثمائة سنة ، وكان فار التنور بالهند وطافت سفينة نوح بالبيت أسبوعا .
وأخرج عنه أيضا قال : التنور العين التي بالجزيرة عين الوردة . ابن أبي حاتم
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قال : فار التنور من علي بن أبي طالب مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة .
وقد روي عنه نحو هذا من طرق .
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قال : التنور وجه الأرض ، قيل له : إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك . ابن عباس
والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن علي وفار التنور قال : طلع الفجر قيل له : إذا طلع الفجر فاركب أنت وأصحابك .
وقد روي في تفسير التنور غير هذا ، وقد قدمنا الإشارة إلى ذلك .
وروي في صفة القصة وما حمله نوح في السفينة ، وكيف كان [ ص: 660 ] الغرق ، وكم بقيت السفينة على ظهر الماء روايات كثيرة لا مدخل لها في تفسير كلام الله سبحانه .
وأخرج عن ابن جرير مجاهد في قوله : بسم الله مجراها ومرساها قال : حين يركبون ويجرون ويرسون .
وأخرج عن ابن جرير الضحاك قال : كان إذا أراد أن ترسي قال : بسم الله فأرست ، وإذا أراد أن تجري قال : بسم الله فجرت .
وأخرج أبو يعلى والطبراني وابن السني وابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه عن الحسن بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وما قدروا الله حق قدره إلى آخر الآية . أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا : بسم الله الملك الرحمن ،
وأخرجه ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ابن عباس
وأخرجه أيضا أبو الشيخ عنه مرفوعا من طريق أخرى .
وأخرج عن ابن أبي حاتم قتادة قال : كان اسم ابن نوح الذي غرق كنعان .
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قال : هو ابنه غير أنه خالفه في النية والعمل . ابن عباس
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم قال : لا ناج إلا أهل السفينة .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن القاسم بن أبي برة في قوله : وحال بينهما الموج قال : بين ابن نوح والجبل .
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله : ياأرض ابلعي قال : هو بالحبشية .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن في ابلعي قال بالحبشية : أي ازدرديه . وهب بن منبه
وأخرج أبو الشيخ عن عن أبيه قال : معناه اشربي بلغة جعفر بن محمد الهند .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مثله . ابن عباس
أقول : وثبوت لفظ البلع وما يشتق منه في لغة العرب ظاهر مكشوف ، فما لنا وللحبشة والهند .