قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون قيل : إن المذكورة هنا مقدم في التلاوة ومؤخر في المعنى على قوله تعالى : قصة ذبح البقرة وإذ قتلتم نفسا ويجوز أن يكون قوله : ( قتلتم ) مقدما في النزول ، ويكون الأمر بالذبح مؤخرا ، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ، ثم وقع من أمر القتل فأمروا أن يضربوه ببعضها . هذا على فرض أن الواو تقتضي الترتيب ، وقد تقرر [ ص: 66 ] في علم العربية أنها لمجرد الجمع من دون ترتيب ولا معية ، وسيأتي في قصة القتل تمام الكلام ، والبقرة اسم للأنثى ، ويقال للذكر ثور ، وقيل : إنها تطلق عليهما ، وأصله من البقر وهو الشق لأنها تشق الأرض بالحرث ، قال الأزهري : البقر اسم جنس ، وجمعه باقر . وقد قرأ عكرمة ويحيى بن يعمر إن البقر تشابه علينا وقوله : ( هزوا ) الهزو هنا اللعب والسخرية ، وقد تقدم تفسيره .
وإنما يفعل ذلك أهل الجهل لأنه نوع من العبث الذي لا يفعله العقلاء ، ولهذا أجابهم موسى بالاستعاذة بالله سبحانه من الجهل .
وقوله : قالوا ادع لنا ربك هذا نوع من أنواع تعنتهم المألوفة ، فقد كانوا يسلكون هذه المسالك في غالب ما أمرهم الله به ولو تركوا العنت والأسئلة المتكلفة لأجزأهم ذبح بقرة من عرض البقر ، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم كما سيأتي بيانه .
والفارض : المسنة ، ومعناه في اللغة : الواسع .
قال في الكشاف : وكأنها سميت فارضا لأنها فرضت سنها : أي قطعتها وبلغت آخرها . انتهى .
ويقال للشيء القديم فارض ، ومنه قول الراجز :
يا رب ذي ضغن علي فارض له قرو كقرو الحائض
أي قديم ، وقيل : الفارض : التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها .والبكر : الصغيرة التي لم تحمل ، وتطلق في إناث البهائم وبني آدم على ما لم يفتحله الفحل ، وتطلق أيضا على الأول من الأولاد ، ومنه قول الراجز :
يا بكر بكرين ويا صلب الكبد أصبحت مني كذراع من عضد
وقوله : ( فافعلوا ) تجديد للأمر ، وتأكيد له ، وزجر لهم عن التعنت ، فلم ينفعهم ذلك ولا نجع فيهم ، بل رجعوا إلى طبيعتهم ، وعادوا إلى مكرهم واستمروا على عادتهم المألوفة فقالوا : ادع لنا ربك .
واللون : واحد الألوان ، وجمهور المفسرين على أنها كانت جميعها صفراء .
قال بعضهم : حتى قرنها وظلفها .
وقال الحسن : إنها كانت صفراء القرن والظلف فقط ، وهو خلاف الظاهر . وسعيد بن جبير
والمراد بالصفرة هنا الصفرة المعروفة .
وروي عن الحسن أن ( صفراء ) معناه سوداء ، وهذا من بدع التفاسير ومنكراتها ، وليت شعري كيف يصدق على اللون الأسود الذي هو أقبح الألوان أنه يسر الناظرين ، وكيف يصح وصفه بالفقوع الذي يعلم كل من يعرف لغة العرب أنه لا يجري على الأسود بوجه من الوجوه ، فإنهم يقولون في وصف الأسود : حالك وحلكوك ودجوجي وغربيب .
قال : يقال : فقع لونها يفقع فقوعا : إذا خلصت صفرته . الكسائي
وقال في الكشاف : الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه .
ومعنى ( تسر الناظرين ) تدخل عليهم السرور إذا نظروا إليها إعجابا بها واستحسانا للونها .
قال وهب : كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها .
ثم لم ينزعوا عن غوايتهم ولا ارعووا من سفههم وجهلهم ، بل عادوا إلى تعنتهم فقالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا . أي أن جنس البقر يتشابه عليهم لكثرة ما يتصف منها بالعوان الصفراء الفاقعة ، ووعدوا من أنفسهم بالاهتداء إلى ما دلهم عليه ، والامتثال لما أمروا به .
والذلول : التي لم يذللها العمل : أي هي غير مذللة بالعمل ولا ريضة به .
وقوله : ( تثير ) في موضع رفع على الصفة لبقرة ، أي : هي بقرة لا ذلول مثيرة ، وكذلك قوله : ولا تسقي الحرث في محل رفع لأنه وصف لها : أي ليست من النواضح التي يسنى عليها لسقي الزروع ، وحرف النفي الآخر توكيد للأول ، أي هي بقرة غير مذللة بالحرث ولا بالنضح ، ولهذا قال الحسن : كانت البقرة وحشية .
وقال قوم : إن قوله : ( تثير ) فعل مستأنف .
والمعنى : إيجاب الحرث لها والنضح بها .
والأول أرجح ، لأنها لو كانت مثيرة ساقية لكانت مذللة ريضة ، وقد نفى الله ذلك عنها . وقوله : ( مسلمة ) مرتفع على أنه من أوصاف البقرة ، ويجوز أن يكون مرتفعا على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أي هي مسلمة .
والجملة في محل رفع على أنها صفة ، والمسلمة : هي التي لا عيب فيها ، وقيل : مسلمة من العمل ، وهو ضعيف لأن الله سبحانه قد نفى ذلك عنها ، والتأسيس خير من التأكيد ، والإفادة أولى من الإعادة .
والشية أصلها وشية حذفت الواو كما حذفت من يشي ، وأصله يوشي ، ونظيره : الزنة والعدة والصلة ، وهي مأخوذة من وشي الثوب : إذا نسج على لونين مختلفين ، وثور موشى في وجهه وقوائمه سود .
والمراد أن هذه البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون آخر .
فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا يبقى بعدها ريب ولا يخالج سامعها شك ، ولا تحتمل الشركة بوجه من الوجوه ، أقصروا من غوايتهم ، وانتبهوا من رقدتهم وعرفوا مقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم قالوا : الآن جئت بالحق . أي أوضحت لنا الوصف ، وبينت لنا الحقيقة التي يجب الوقوف عندها ، فحصلوا تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات فذبحوها وامتثلوا الأمر الذي كان يسرا فعسروه ، وكان واسعا فضيقوه وما كادوا يفعلون ما أمروا به لما وقع منهم من التثبط والتعنت وعدم المبادرة ، فكان ذلك مظنة للاستبعاد ، ومحلا للمجيء بعبارة مشعرة بالتثبط الكائن منهم ، وقيل : إنهم ما كادوا يفعلون لعدم وجدان البقرة المتصفة بهذه الأوصاف ، وقيل : لارتفاع ثمنها ، وقيل : لخوف انكشاف أمر المقتول ، والأول أرجح .
وقد استدل جماعة من المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز . النسخ قبل إمكان الفعل
وليس ذلك عندي بصحيح لوجهين : الأول : أن هذه الأوصاف المزيدة بسبب تكرر السؤال هي من باب التقييد [ ص: 67 ] للمأمور به لا من باب النسخ ، وبين البابين بون بعيد كما هو مقرر في علم الأصول .
الثاني : أنا لو سلمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه دليل على ما قالوه ، فإنه قد كان يمكنهم بعد الأمر الأول أن يعمدوا إلى بقرة من عرض البقر فيذبحوها ، ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان والصفراء ، ولا دليل على أن هذه المحاورة بينهم وبين موسى عليه السلام واقعة في لحظة واحدة ، بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطئون عليها ، ويديرون الرأي بينهم في أمرها ثم يوردونها ، وأقل الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال .
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن قال : كان رجل من عبيدة السلماني بني إسرائيل عقيما لا يولد له وكان له مال كثير ، وكان ابن أخيه وارثه ، فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم إلى بعض ، فقال ذو الرأي منهم : علام يقتل بعضكم بعضا ، وهذا رسول الله فيكم ؟ فأتوا موسى فذكروا ذلك له ، فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة الآية ، فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ، ولكنهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها ، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها ، فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا ، فأخذوها بملء جلدها ذهبا ، فذبحوها فضربوه ببعضها ، فقام ، فقالوا : من قتلك ؟ فقال : هذا ، لابن أخيه ، ثم مال ميتا ، فلم يعط من ماله شيئا ، ولم يورث قاتل بعده . شددوا فشدد عليهم
وأخرج في كتاب من عاش بعد الموت عن ابن أبي الدنيا أن القتيل وجد بين قريتين ، وأن البقرة كانت لرجل كان يبر أباه فاشتروها بوزنها ذهبا . ابن عباس
وأخرج عنه نحوا من ذلك ، ولم يذكر ما تقدم في البقرة . ابن جرير
وقد روي في هذا قصص مختلفة لا يتعلق بها كثير فائدة .
وأخرج البزار عن عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أبي هريرة بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم ، أو لأجزأت عنهم . إن
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة لولا أن بني إسرائيل قالوا : وإنا إن شاء الله لمهتدون ما أعطوا أبدا ، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم .
وأخرج نحوه الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر عن عكرمة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرجه عن ابن جرير يرفعه . ابن جريج
وأخرجه عن ابن جرير قتادة يرفعه أيضا .
وهذه الثلاثة مرسلة .
وأخرج نحوه ابن جرير عن وابن أبي حاتم . ابن عباس
وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طرق عن وابن أبي حاتم قال : الفارض الهرمة ، والبكر الصغيرة ، والعوان النصف . ابن عباس
وأخرج نحوه عن مجاهد .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس عوان بين ذلك قال : بين الصغيرة والكبيرة ، وهي أقوى ما يكون وأحسنه .
وقد أخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : وابن أبي حاتم صفراء فاقع لونها قال : شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : صفراء ، قال : صفراء الظلف ، فاقع لونها ، قال : صاف . ابن عمر
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن وابن جرير قتادة قال : فاقع لونها ، أي صاف تسر الناظرين أي تعجب .
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن وابن جرير الحسن في قوله : صفراء فاقع لونها قال : سوداء شديدة السواد .
وأخرج عن ابن جرير أبي العالية في قوله : لا ذلول ، أي لم يذلها العمل تثير الأرض يعني ليست بذلول فتثير الأرض ولا تسقي الحرث يقول : ولا تعمل في الحرث ، مسلمة ، قال : من العيوب .
وأخرج نحوه عبد بن حميد عن وابن جرير مجاهد .
وقال : لا شية فيها ، لا بياض فيها ولا سواد .
وأخرج عن ابن جرير مسلمة لا عوار فيها . ابن عباس
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير قتادة قالوا الآن جئت بالحق قالوا : الآن بينت لنا فذبحوها وما كادوا يفعلون .
وأخرج عن ابن جرير في قوله : محمد بن كعب وما كادوا يفعلون لغلاء ثمنها .