هذا شروع في ترغيب كل مؤمن في كل عمل صالح ، وتعميم للوعد ، ومعنى من عمل صالحا من عمل عملا صالحا أي عمل كان ، وزيادة التمييز بذكر ( أو أنثى ) مع كون لفظ من شاملا لهما لقصد التأكيد والمبالغة في تقرير الوعد ، وقيل إن لفظ من ظاهر في الذكور ، فكان في التنصيص على الذكر والأنثى بيان لشموله للنوعين ، وجملة وهو مؤمن في محل نصب على الحال ، جعل سبحانه الإيمان قيدا في الجزاء المذكور لأن عمل الكافر لا اعتداد به لقوله سبحانه : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ الفرقان : 23 ] ، ثم ذكر الجزاء لمن عمل ذلك العمل الصالح فقال : فلنحيينه حياة طيبة وقد وقع الخلاف في الحياة الطيبة بماذا تكون ؟ فقيل بالرزق الحلال ، روي ذلك عن ، ابن عباس ، وسعيد بن جبير وعطاء ، والضحاك .
وقيل بالقناعة ، قاله ، الحسن البصري ، وزيد بن وهب . ووهب بن منبه
وروي أيضا عن علي ، . وابن عباس
وقيل بالتوفيق إلى الطاعة قاله الضحاك .
وقيل الحياة الطيبة هي حياة الجنة .
روي عن مجاهد ، وقتادة ، . وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم
وحكي عن الحسن أنه قال : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة ، وقيل الحياة الطيبة هي السعادة ، روي ذلك عن . ابن عباس
وقيل هي المعرفة بالله ، حكي ذلك عن جعفر الصادق .
وقال أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة .
وقال : هي أن ينزع عن العبد تدبير نفسه ويرد تدبيره إلى الحق . سهل بن عبد الله التستري
وقيل هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق ، وأكثر المفسرين على أن هذه الحياة الطيبة هي في الدنيا لا في الآخرة ، لأن حياة الآخرة قد ذكرت بقوله : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وقد قدمنا قريبا تفسير الجزاء بالأحسن ، ووحد الضمير في ( لنحيينه ) وجمعه في ولنجزينهم حملا على لفظ من ، وعلى معناه .
ثم لما ذكر سبحانه العمل الصالح والجزاء عليه أتبعه بذكر الاستعاذة التي تخلص بها الأعمال الصالحة عن الوساوس الشيطانية فقال : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم والفاء لترتيب الاستعاذة عن العمل الصالح ، وقيل هذه الآية متصلة بقوله : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ النحل : 89 ] ، والتقدير : فإذا أخذت في قراءته فاستعذ .
قال وغيره من أئمة اللغة : معناه إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ وليس معناه استعذ بعد أن تقرأ القرآن ، ومثله : إذا أكلت فقل بسم الله . الزجاج
قال الواحدي : وهذا إجماع الفقهاء أن إلا ما روي عن الاستعاذة قبل القراءة ، ، أبي هريرة ، وابن سيرين وداود ، ومالك ، وحمزة من القراء فإنهم قالوا : الاستعاذة بعد القراءة ، ذهبوا إلى ظاهر الآية ، ومعنى فاستعذ بالله : اسأله سبحانه أن يعيذك من الشيطان الرجيم ، أي : من وساوسه ، وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لسائر الأعمال الصالحة عند إرادتها أهم ؛ لأنه إذا وقع الأمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كانت عند إرادة غيره أولى ، كذا قيل .
وتوجيه الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للإشعار بأن غيره أولى منه بفعل الاستعاذة ؛ لأنه إذا أمر بها لدفع وساوس الشيطان مع عصمته ، فكيف بسائر أمته ؟ وقد ذهب الجمهور إلى أن الأمر في الآية للندب .
وروي عن عطاء الوجوب أخذا بظاهر الأمر .
وقد تقدم الكلام في الاستعاذة مستوفى في أول هذا التفسير .
والضمير في إنه ليس له سلطان للشأن أو للشيطان ، أي : ليس له تسلط على إغواء الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون وحكى الواحدي عن جميع المفسرين أنهم فسروا السلطان بالحجة .
وقالوا : المعنى ليس له حجة على المؤمنين في إغوائهم ودعائهم إلى الضلالة ، ومعنى وعلى ربهم يتوكلون يفوضون أمورهم إليه في كل قول وفعل ، فإن الإيمان بالله والتوكل عليه يمنعان الشيطان من وسوسته لهم ، وإن وسوس لأحد منهم لا تؤثر فيه وسوسته وهذه [ ص: 802 ] الجملة تعليل للأمر بالاستعاذة ، وهؤلاء الجامعون بين الإيمان والتوكل هم الذين قال فيهم إبليس : إلا عبادك منهم المخلصين [ الحجر : 40 ] ، وقال الله فيهم : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ الحجر : 42 ] .
ثم حصر سبحانه سلطان الشيطان ، فقال إنما سلطانه أي تسلطه على الإغواء على الذين يتولونه أي يتخذونه وليا ويطيعونه في وساوسه والذين هم به مشركون الضمير في به يرجع إلى الله تعالى : أي الذين هم بالله مشركون ، وقيل يرجع إلى الشيطان ، والمعنى : والذين هم من أجله وبسبب وسوسته مشركون بالله .
وإذا بدلنا آية مكان آية هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها ، ومعنى التبديل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها ، وهو نسخها بآية سواها .
وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة قالوا أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ إنما أنت يا محمد مفتر أي كاذب مختلق على الله متقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشيء ، ثم تزعم أنه أمرك بخلافه ، فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال : بل أكثرهم لا يعلمون شيئا من العلم أصلا ، أو لا يعلمون بالحكمة في النسخ ، فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه ، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ، ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره ، ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف .
ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله ، وأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - افتراه فقال : قل نزله أي القرآن المدلول عليه بذكر الآية روح القدس أي جبريل ، والقدس التطهير ، والمعنى : نزله الروح المطهر من أدناس البشرية ، فهو من إضافة موصوف إلى الصفة من ربك أي ابتداء تنزيله من عنده سبحانه ، و بالحق في محل نصب على الحال : أي متلبسا بكونه حقا ثابتا لحكمة بالغة ليثبت الذين آمنوا على الإيمان ، فيقولون : كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا ، ولأنهم أيضا إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم .
وقرئ " ليثبت " من الإثبات وهدى وبشرى للمسلمين وهما معطوفان على محل ليثبت ، أي : تثبيتا لهم وهداية وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم .
ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبههم فقال : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر اللام هي الموطئة ، أي : ولقد نعلم أن هؤلاء الكفار يقولون إنما يعلم محمدا القرآن بشر من بني آدم غير ملك .
وقد اختلف أهل العلم في تعيين هذا البشر الذي زعموا عليه ما زعموا ، فقيل هو غلام الفاكه بن المغيرة ، واسمه جبر ، وكان نصرانيا فأسلم ، وكان كفار قريش إذا سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبار القرون الأولى مع كونه أميا ، قالوا : إنما يعلمه جبر .
وقيل اسمه يعيش ، عبد لبني الحضرمي ، وكان يقرأ الكتب الأعجمية .
وقيل غلام لبني عامر بن لؤي .
وقيل هما غلامان : اسم أحدهما يسار ، واسم الآخر جبر ، وكانا صيقليين يعملان السيوف ، وكانا يقرآن كتابا لهم ، وقيل كانا يقرآن التوراة والإنجيل .
وقيل عنوا وقيل عنوا نصرانيا سلمان الفارسي ، بمكة اسمه بلعام ، وكان يقرأ التوراة .
وقيل عنوا رجلا نصرانيا كان اسمه أبا ميسرة يتكلم بالرومية ، وفي رواية اسمه عداس .
قال النحاس : وهذه الأقوال غير متناقضة ؛ لأنه يجوز أنهم زعموا أنهم جميعا يعلمونه ، ولكن لا يمكن الجمع باعتبار قول من قال إنه سلمان ، لأن هذه الآية مكية ، وهو إنما أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة .
ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي الإلحاد : الميل ، يقال لحد وألحد ، أي : مال عن القصد .
وقد تقدم في الأعراف ، وقرأ حمزة ، ( يلحدون ) بفتح الياء والحاء . والكسائي
وقرأ من عداهما بضم الياء وكسر الحاء ، أي : لسان الذي يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمك أعجمي ، يقال : رجل أعجم وامرأة عجماء ، أي : لا يفصحان ، والعجمة الإخفاء ، وهي ضد البيان ، والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بها أعجميا .
قال الفراء : الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب ، والأعجمي : هو العجمي الذي أصله من العجم .
وقال أبو علي الفارسي : العجمي المنسوب إلى العجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم ، وكذلك الأعجم ، والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا وهذا لسان عربي مبين الإشارة إلى القرآن ، وسماه لسانا لأن العرب تقول للقصيدة والبيت لسانا ، ومنه قول الشاعر :
لسان الشر تهديها إلينا وخنت وما حسبتك أن تخونا
أو أراد باللسان البلاغة فكأنه قال : وهذا القرآن ذو بلاغة عربية وبيان واضح ، فكيف تزعمون أن بشرا يعلمه من العجم .وقد عجزتم أنتم عن معارضة سورة منه ، وأنتم أهل اللسان العربي ورجال الفصاحة وقادة البلاغة وهاتان الجملتان مستأنفتان سيقتا لإبطال طعنهم ودفع كذبهم .
ولما ذكر سبحانه جوابهم وبخهم وهددهم فقال : إن الذين لا يؤمنون بآيات الله أي لا يصدقون بها لا يهديهم الله إلى الحق الذي هو سبيل النجاة هداية موصلة إلى المطلوب لما علم من شقاوتهم ولهم في الآخرة عذاب عظيم بسبب ما هم عليه من الكفر والتكذيب بآيات الله .
ثم لما وقع منهم نسبة الافتراء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد عليهم بقوله : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله فكيف يقع الافتراء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رأس المؤمنين بها ، والداعين إلى الإيمان بها ، وهؤلاء الكفار هم الذين لا يؤمنون بها ، فهم المفترون للكذب .
قال : المعنى إنما يفتري الكذب الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله كذبوا بها ، هؤلاء أكذب الكذبة ، ثم سماهم الكاذبين ، فقال : أولئك أي المتصفون بذلك هم الكاذبون أي إن [ ص: 803 ] الكذب نعت لازم لهم وعادة من عاداتهم فهم الكاملون في الكذب ، إذ لا كذب أعظم من تكذيبهم بآيات الله . الزجاج
وقد أخرج عبد الرزاق ، ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم أنه سئل عن الحياة الطيبة المذكورة في الآية فقال : الحياة الطيبة الرزق الحلال في هذه الحياة الدنيا ، وإذا صار إلى ربه جازاه بأحسن ما كان يعمل . ابن عباس
وأخرج عنه قال : الكسب الطيب والعمل الصالح . ابن أبي حاتم
وأخرج العسكري في الأمثال عن علي في الآية قال : القناعة .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طرق عن قال : القنوع ، قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ابن عباس . اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه ، واخلف علي كل غائبة لي بخير
وأخرج أحمد ، ومسلم ، ، والترمذي عن وابن ماجه ابن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : . قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه
وأخرج الترمذي ، من حديث والنسائي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : فضالة بن عبيد . قد أفلح من هدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافا وقنع به
وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر عن عطاء قال : وغيرها من أجل قوله : الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الصلاة فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وقد ورد في مشروعية الاستعاذة عند التلاوة ما لعلنا قد قدمنا ذكره .
وأخرج ، ابن جرير عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس إنما سلطانه على الذين يتولونه يقول سلطان الشيطان على من تولى الشيطان وعمل بمعصية الله .
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه ، والحاكم وصححه عن في قوله : ابن عباس وإذا بدلنا آية مكان آية وقوله : ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا قال : كان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأزله الشيطان فلحق بالكفار ، فأمر به رسول الله أن يقتل يوم الفتح ، فاستجار له عبد الله بن سعد بن أبي سرح عثمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجاره .
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : وإذا بدلنا آية مكان آية قال : هو كقوله : ما ننسخ من آية أو ننسها [ البقرة : 106 ] .
وأخرج ، ابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن قال : ابن عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم بمكة قينا اسمه بلعام ، وكان أعجميا ، فكان المشركون يرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل عليه ويخرج من عنده ، فقالوا : إنما يعلمه بلعام ، فأنزل الله ولقد نعلم أنهم يقولون الآية .
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عنه في الآية ، قال : قالوا إنما يعلم محمدا عبد ابن الحضرمي وهو صاحب الكتب ، فأنزل الله هذه الآية .
وأخرج ، آدم بن أبي إياس ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم والبيهقي عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال : كان لنا عبدان من أهل عين التمر ، يقال لأحدهما يسار والآخر جبر ، وكانا يصنعان السيوف بمكة ، وكانا يقرآن الإنجيل ، فربما مر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وهما يقرآن فيقف ويستمع ، فقال المشركون : إنما يتعلم منهما ، فنزلت هذه الآية .