الضمير في قوله عليهم راجع إلى الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله : أئذا ما مت لسوف أخرج حيا [ مريم : 66 ] أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعذروا بالدنيا ، وقالوا : لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا ، ولم يكن بالعكس ، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعز أعداءه ، ومعنى البينات الواضحات التي لا تلتبس معانيها ، وقيل : ظاهرات الإعجاز ، وقيل : إنها حجج وبراهين ، والأول أولى . وهي حال مؤكدة لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة ، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : [ ص: 898 ] قال الذين كفروا للإشعار بأن كفرهم هو السبب لصدور هذا القول عنهم ، وقيل : المراد بالذين كفروا هنا هم المتمردون المصرون منهم ، ومعنى قالوا للذين آمنوا قالوا لأجلهم ، وقيل : هذه اللام هي لام التبليغ كما في قوله : وقال لهم نبيهم [ البقرة : 248 و 247 ] أي خاطبوهم بذلك وبلغوا القول إليهم أي الفريقين خير مقاما المراد بالفريقين المؤمنون والكافرون ، كأنهم قالوا أفريقنا خير أم فريقكم ، قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد ( مقاما ) بضم الميم وهو موضع الإقامة ، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإقامة ، وقرأ الباقون بالفتح : أي منزلا ومسكنا وقيل : المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة والمعنى : أي الفريقين أكبر جاها وأكثر أنصارا وأعوانا ، والندي والنادي : مجلس القوم ومجتمعهم ، ومنه قوله تعالى : وتأتون في ناديكم المنكر [ العنكبوت : 29 ] وناداه : جالسه في النادي ، ومنه دار الندوة ، لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم ، ومنه أيضا قول الشاعر :
أنادي به آل الوليد جعفرا
وكم أهلكنا قبلهم من قرن القرن الأمة والجماعة هم أحسن أثاثا ورئيا الأثاث المال أجمع : الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع ، وقيل : هو متاع البيت خاصة ، وقيل : هو الجديد من الفرش ، وقيل : اللباس خاصة . واختلفت القراءات في ( ورئيا ) فقرأ أهل المدينة وابن ذكوان ( وريا ) بياء مشددة ، وفي ذلك وجهان : أحدهما أن يكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء ، والمعنى على هذه القراءة : هم أحسن منظرا وبه قول جمهور المفسرين ، وحسن المنظر يكون من جهة حسن اللباس ، أو حسن الأبدان وتنعمها ، أو مجموع الأمرين . قرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير ورئيا بالهمز ، وحكاها عن ورش نافع وهشام عن ابن عامر ، ومعناها معنى القراءة الأولى . قال الجوهري : من همز جعله من المنظر من رأيت ، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة ، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي :أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث
قل من كان في الضلالة أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية : أي من كان مستقرا في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا هذا وإن كان على صيغة الأمر ، والمراد به الخير ، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان ، وأن ذلك كائن لا محالة لتنقطع معاذير أهل الضلال ، ويقال لهم يوم القيامة الإمهال منه سبحانه للعصاة أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر [ فاطر : 37 ] أو للاستدراج كقوله سبحانه إنما نملي لهم ليزدادوا إثما [ آل عمران : 178 ] وقيل : المراد بالآية الدعاء بالمد والتنفيس . قال : تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمده فيها ، لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن المتكلم يقول أفعل ذلك وآمر به نفسي الزجاج حتى إذا رأوا ما يوعدون يعني الذين مد لهم في الضلالة ، وجاء بضمير الجماعة اعتبارا بمعنى من ، كما أن قوله كان في الضلالة فليمدد له اعتبار بلفظها ، وهذه غاية للمد ، لا لقول المفتخرين إذ ليس فيه امتداد إما العذاب وإما الساعة هذا تفصيل لقوله ما يوعدون : أي هذا الذي توعدون هو أحد أمرين إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر ، وإما يوم القيامة وما يحل بهم حينئذ من العذاب الأخروي فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا هذا جواب الشرط ، وهو جواب على المفتخرين : أي هؤلاء القائلون : أي الفريقين خير مقاما ، إذا عاينوا ما يوعدون به من العذاب الدنيوي بأيدي المؤمنين ، أو الأخروي ، فسيعلمون عند ذلك من هو شر مكانا لا خير مكانا ، وأضعف جندا لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين ، وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جندا ضعفاء ، بل لا جند لهم أصلا كما في قوله سبحانه : ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا [ الكهف : 43 ] .
ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة ، أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وذلك أن بعض الهدى يجر إلى البعض الآخر ، والخير يدعو إلى الخير ، وقيل : المراد بالزيادة العبادة من المؤمنين ، والواو في ويزيد للاستئناف ، والجملة مستأنفة لبيان حال المهتدين ، وقيل : الواو للعطف على فليمدد ، وقيل : للعطف على جملة من كان في الضلالة . قال : المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقينا كما جعل جزاء الكافرين أن يمدهم في ضلالتهم الزجاج والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا هي الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية ، ومعنى كونها خيرا عند الله ثوابا ، أنها أنفع عائدة مما يتمتع به الكفار من النعم الدنيوية وخير مردا المرد هاهنا مصدر كالرد ، والمعنى وخير مردا للثواب على فاعلها ليست كأعمال الكفار التي خسروا فيها ، والمرد المرجع والعاقبة والتفضل للتهكم بهم للقطع بأن . ثم أردف سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال : أعمال الكفار لا خير فيها أصلا أفرأيت الذي كفر بآياتنا أي أخبرني بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقب [ ص: 899 ] حديث أولئك ، وإنما استعملوا أرأيت بمعنى أخبر ، لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه ، والآيات تعم كل آية ومن جملتها آية البعث ، والفاء للعطف على مقدر يدل عليه المقام : أي أنظرت فرأيت ، واللام في لأوتين مالا وولدا هي الموطئة للقسم ، كأنه قال : والله لأوتين في الآخرة مالا وولدا : أي انظر إلى حال هذا الكافر وتعجب من كلامه وتأليه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته .
ثم أجاب سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله ، فقال أطلع على الغيب أي أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة أم اتخذ عند الرحمن عهدا بذلك ، فإنه لا يتوصل إلى العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين ، وقيل : المعنى : أنظر في اللوح المحفوظ ؟ أم اتخذ عند الرحمن عهدا ، وقيل : معنى : أم اتخذ عند الرحمن عهدا ؟ أم قال لا إله إلا الله فأرحمه بها ، وقيل : المعنى أم قدم عملا صالحا فهو يرجوه ، واطلع مأخوذ من قولهم : اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه . وقرأ حمزة والكسائي ويحيى بن وثاب ( وولدا ) بضم الواو ، والباقون بفتحها ، فقيل هما لغتان معناهما واحد ، يقال ولد وولد كما يقال عدم وعدم ، قال والأعمش الحارث بن حلزة :
ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا
فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار
وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله : ( لأوتين مالا وولدا ) أنه يؤتى ذلك في الدنيا . وقال جماعة في الجنة ، وقيل : المعنى : إن أقمت على دين آبائي لأوتين ، وقيل : المعنى : لو كنت على باطل لما أوتيت مالا وولدا .
كلا سنكتب ما يقول كلا حرف ردع وزجر : أي ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد سيكتب ما يقول : أي سنحفظ عليه ما يقوله فنجازيه في الآخرة ، أو سنظهر ما يقول ، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته ونمد له من العذاب مدا أي نزيده عذابا فوق عذابه مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد ، أو نطول له من العذاب ما يستحقه وهو عذاب من جمع بين الكفر والاستهزاء .
ونرثه ما يقول أي نميته فنرثه المال والولد الذي يقول إنه يؤتاه . والمعنى : مسمى ما يقول ومصداقه ، وقيل : المعنى : نحرمه ما تمناه ونعطيه غيره ويأتينا فردا أي يوم القيامة لا مال له ولا ولد ، بل نسلبه ذلك ، فكيف يطمع في أن نؤتيه ، وقيل : المراد بما يقول نفس القول لا مسماه ، والمعنى : إنما يقول هذا القول ما دام حيا ، فإذا أمتناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضا له منفردا عنه ، والأول أولى . وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : أي الفريقين خير مقاما قال : قريش تقوله لها ولأصحاب محمد . وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس خير مقاما قال : المنازل وأحسن نديا قال : المجالس ، وفي قوله : أحسن أثاثا قال : المتاع والمال ورئيا قال : المنظر . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا فليدعه الله في طغيانه ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قال في حرف حبيب بن أبي ثابت أبي ( قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة ) . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما في قوله أفرأيت الذي كفر من حديث قال : كنت رجلا قينا وكان لي على خباب بن الأرت العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك ، فأنزل الله فيه هذه الآية .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس أم اتخذ عند الرحمن عهدا قال : لا إله إلا الله يرجو بها . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : وابن أبي حاتم ونرثه ما يقول قال : ماله وولده .