و فأرسل فرعون في المدائن حاشرين وذلك حين بلغه مسيرهم ، والمراد بالحاشرين : الجامعون للجيش من الأمكنة التي فيها أتباع فرعون ، ثم قال فرعون لقومه بعد اجتماعهم لديه : إن هؤلاء لشرذمة قليلون يريد بني إسرائيل ، والشرذمة الجمع الحقير القليل ، والجمع شراذم ، قال الجوهري : الشرذمة الطائفة من الناس والقطعة من الشيء ، وثوب شراذم : أي : قطع ، ومنه قول الشاعر :
جاء الشتاء وقميصي أخلاق شراذم يضحك منها الخلاق
قال الفراء : يقال : عصبة قليلة وقليلون وكثيرة وكثيرون ، قال : الشرذمة القطعة من الناس غير الكثير ، وجمعها الشراذم . المبرد
قال الواحدي : قال المفسرون : وكان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف ولا يحصى عدد أصحاب فرعون .
وإنهم لنا لغائظون يقال : ، غاظني كذا وأغاظني ، والغيظ الغضب ، ومنه التغيظ والاغتياظ : أي : غاظونا بخروجهم من غير إذن مني .
وإنا لجميع حاذرون قرئ " حذرون " و " حاذرون " و " حذرون " بضم الذال ، حكى ذلك الأخفش .
قال الفراء : الحاذر الذي يحذرك الآن ، والحذر المخلوق كذلك لا تلقاه إلا حذرا .
وقال : الحاذر المستعد ، والحذر المتيقظ ، وبه قال الزجاج الكسائي ومحمد بن يزيد .
قال النحاس : " حذرون " قراءة المدنيين وأبي عمرو ، و " حاذرون " قراءة أهل الكوفة ، قال : وأبو عبيدة يذهب إلى أن معنى حذرون وحاذرون واحد وهو قول وأنشد سيبويه ، : سيبويه
حذر أمورا لا تضير وحاذر ما ليس ينجيه من الأقدار
فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم يعني : فرعون وقومه أخرجهم الله من أرض مصر وفيها الجنات والعيون والكنوز ، وهي جمع جنة وعين وكنز ، والمراد بالكنوز الخزائن ، وقيل : الدفائن ، وقيل : الأنهار ، وفيه نظر لأن العيون المراد بها عند جمهور المفسرين عيون الماء فيدخل تحتها الأنهار .
واختلف في المقام الكريم ، فقيل : المنازل الحسان ، وقيل : المنابر ، وقيل : مجالس الرؤساء والأمراء ، وقيل : مرابط الخيل ، والأول أظهر ، ومن ذلك قول الشاعر :
وفيهم مقامات حسان وجوهها وأندية ينتابها القول والفعل
كذلك وأورثناها بني إسرائيل يحتمل أن يكون كذلك في محل نصب : أي : أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا ، ويحتمل أن يكون في محل جر على الوصفية أي : مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، ويحتمل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك : ومعنى وأورثناها بني إسرائيل جعلناها ملكا لهم ، وهو معطوف على ( فأخرجناهم ) .
فأتبعوهم مشرقين قراءة الجمهور بقطع الهمزة ، وقرأ الحسن والحارث الديناري بوصلها وتشديد التاء أي : فلحقوهم حال كونهم مشرقين أي : داخلين في وقت الشروق ، يقال : شرقت الشمس شروقا إذا طلعت كأصبح وأمسى : أي : دخل في هذين الوقتين ، وقيل : داخلين نحو المشرق كأنجد وأتهم ، وقيل : معنى مشرقين مضيئين .
قال : يقال : شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت . الزجاج
فلما تراءى الجمعان قرأ الجمهور " تراءى " بتخفيف الهمزة ، وقرأ ابن وثاب ، من غير همز ، والمعنى : تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه ، وهو تفاعل من الرؤية ، وقرئ والأعمش تراءت الفئتان
قال أصحاب موسى إنا لمدركون أي : سيدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا بهم .
قرأ الجمهور إنا لمدركون اسم مفعول من أدرك ، ومنه حتى إذا أدركه الغرق [ يونس : 90 ] وقرأ الأعرج بفتح الدال مشددة وكسر الراء . وعبيد بن عمير
قال الفراء : هما بمعنى واحد .
قال النحاس : ليس كذلك يقول النحويون الحذاق ، إنما يقولون مدركون بالتخفيف ملحقون ، وبالتشديد مجتهدون في لحاقهم .
قال : وهذا معنى قول . سيبويه
وقال : إن معنى هذه القراءة إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد . الزمخشري
قال كلا إن معي ربي سيهدين قال موسى هذه المقالة [ ص: 1058 ] زجرا لهم وردعا ، والمعنى : أنهم لا يدركونكم ، وذكرهم وعد الله بالهداية والظفر ، والمعنى : إن معي ربي بالنصر والهداية سيهدين : أي : يدلني على طريق النجاة ، فلما عظم البلاء على بني إسرائيل ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم به ، وأمر الله - سبحانه - موسى أن يضرب البحر بعصاه ، وذلك فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر لما قال قوله : موسى : إن معي ربي سيهدين بين الله - سبحانه - له طريق الهداية فأمره بضرب البحر ، وبه نجا بنو إسرائيل وهلك عدوهم ، والفاء في فانفلق فصيحة : أي : فضرب فانفلق فصار اثني عشر فلقا بعدد الأسباط ، وقام الماء عن يمين الطريق وعن يساره كالجبل العظيم ، وهو معنى قوله : فكان كل فرق كالطود العظيم والفرق القطعة من البحر ، وقرئ " فلق " بلام بدل الراء ، والطود الجبل قال امرؤ القيس :
فبينا المرء في الأحياء طود رماه الناس عن كثب فمالا
وقال الأسود بن يعفر :
حلوا بأنقرة يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد
وأزلفنا ثم الآخرين أي : قربناهم إلى البحر : يعني فرعون وقومه .
قال الشاعر :
وكل يوم مضى أو ليلة سلفت فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
قال أبو عبيدة : أزلفنا : جمعنا ، ومنه قيل : لليلة المزدلفة ليلة جمع ، و ( ثم ) ظرف مكان للبعيد وقيل : إن المعنى : وأزلفنا قربنا من النجاة ، والمراد بالآخرين موسى وأصحابه ، والأول أولى ، وقرأ الحسن ، وأبو حيوة " وزلفنا " ثلاثيا ، وقرأ أبي وابن عباس وعبد الله بن الحارث " وأزلقنا " بالقاف أي : أزللنا وأهلكنا من قولهم : أزلقت الفرس إذا ألقت ولدها .
وأنجينا موسى ومن معه أجمعين بمرورهم في البحر بعد أن جعله الله طرقا يمشون فيها .
ثم أغرقنا الآخرين يعني فرعون وقومه أغرقهم الله بإطباق البحر عليهم بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه .
والإشارة بقوله : إن في ذلك لآية إلى ما تقدم ذكره مما صدر بين موسى وفرعون إلى هذه الغاية ، ففي ذلك آية عظيمة وقدرة باهرة من أدل العلامات على قدرة الله - سبحانه - وعظيم سلطانه وما كان أكثرهم مؤمنين أي : ما كان أكثر هؤلاء الذين مع فرعون مؤمنين ، فإنه لم يؤمن منهم فيما بعد إلا القليل كحزقيل : وابنته ، وآسية امرأة فرعون ، والعجوز التي دلت على قبر يوسف ، وليس المراد أكثر من كان مع فرعون عند لحاقه بموسى فإنهم هلكوا في البحر جميعا بل المراد من كان معه من الأصل ومن كان متابعا له ومنتسبا إليه ، هذا غاية ما يمكن أن يقال .
وقال وغيره : إن " كان " زائدة ، وأن المراد الإخبار عن المشركين بعد ما سمعوا الموعظة . سيبويه
وإن ربك لهو العزيز الرحيم أي : المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه .
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم ، في قوله : ابن مسعود إن هؤلاء لشرذمة قليلون قال : ستمائة ألف وسبعون ألفا .
وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : كانوا ستمائة ألف . ابن عباس
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : موسى الذين جازوا البحر اثني عشر سبطا ، فكان في كل طريق اثنا عشر ألفا كلهم ولد يعقوب . كان أصحاب
وأخرج ابن مردويه عنه أيضا بسند .
قال السيوطي : واه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : كان فرعون عدو الله حيث أغرقه الله هو وأصحابه في سبعين قائدا مع كل قائد سبعون ألفا ، وكان موسى مع سبعين ألفا حيث عبروا البحر .
وأخرج عنه أيضا قال : ابن أبي حاتم كان طلائع فرعون الذين بعثهم في أثرهم ستمائة ألف ليس فيها أحد إلا على بهيم .
وأقول : هذه الروايات المضطربة قد روي عن كثير من السلف ما يماثلها في الاضطراب والاختلاف ، ولا يصح منها شيء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .
وأخرج عن ابن أبي حاتم ابن عباس ومقام كريم قال : المنابر .
وأخرج ابن جرير ، عنه في قوله : وابن أبي حاتم ، كالطود قال : كالجبل .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن مثله . ابن مسعود
وأخرج عن ابن جرير ابن عباس وأزلفنا قال : قربنا .
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن أبي موسى عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق فقال لبني إسرائيل : ما هذا ؟ فقال له علماء بني إسرائيل : إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقا أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا ، فقال لهم موسى : أيكم يدري أين قبره ؟ فقالوا : ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل ، فأرسل إليها موسى فقال : دلينا على قبر يوسف ؟ فقالت : لا والله حتى تعطيني حكمي ، قال : وما حكمك ؟ قالت : أن أكون معك في الجنة ، فكأنه ثقل عليه ذلك ، فقيل : له أعطها حكمها ، فأعطاها حكمها ، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء ، فقالت لهم : أنضبوا عنها الماء ففعلوا ، قالت : احفروا فحفروا ، فاستخرجوا قبر يوسف ، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار . إن