ثم لما فرغ - سبحانه - من ، ذكر جزاء عباده الطالحين ، فقال : ذكر جزاء عباده الصالحين والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا أي : لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا ويستريحوا من العذاب ولا يخفف عنهم من عذابها بل كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ النساء : 56 ] وهذه الآية هي مثل قوله - سبحانه - لا يموت فيها ولا يحيا [ طه : 74 ] قرأ الجمهور فيموتوا بالنصب جوابا للنفي ، وقرأ عيسى بن عمر ، والحسن بإثبات النون .
قال المازني : على العطف على يقضى .
وقال ابن عطية : هي قراءة ضعيفة ولا وجه لهذا [ ص: 1215 ] التضعيف بل هي كقوله : ولا يؤذن لهم فيعتذرون [ المرسلات : 36 ] ، كذلك نجزي كل كفور أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كل من هو مبالغ في الكفر ، وقرأ أبو عمرو يجزى على البناء للمفعول .
وهم يصطرخون فيها من الصراخ وهو الصياح أي : وهم يستغيثون في النار رافعين أصواتهم ، والصارخ : المستغيث ، ومنه قول الشاعر :
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قرع الطنابيب
ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أي : وهم فيها يصطرخون يقولون : ربنا إلخ .
قال مقاتل : هو أنهم ينادون : ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ، من الشرك والمعاصي ، فنجعل الإيمان منا بدل ما كنا عليه من الكفر ، والطاعة بدل المعصية ، وانتصاب صالحا على أنه صفة لمصدر محذوف أي : عملا صالحا ، أو صفة لموصوف محذوف أي : نعمل شيئا صالحا .
قيل : وزيادة قوله : غير الذي كنا نعمل للتحسر على ما عملوه من غير الأعمال الصالحة مع الاعتراف منهم بأن أعمالهم في الدنيا كانت غير صالحة ، فأجاب الله - سبحانه - عليهم بقوله : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره ، وما نكرة موصوفة أي : أولم نعمركم عمرا يتمكن من التذكر فيه من تذكر .
فقيل : هو ستون سنة ، وقيل : أربعون ، وقيل : ثماني عشرة سنة .
قال بالأول جماعة من الصحابة ، وبالثاني الحسن ومسروق وغيرهما . وبالثالث عطاء ، وقتادة .
وقرأ " ما يذكر " بالإدغام الأعمش وجاءكم النذير قال الواحدي : قال جمهور المفسرين : هو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .
وقال عكرمة ، ، وسفيان بن عيينة ، ووكيع والحسن بن الفضل ، ، والفراء : هو الشيب ، ويكون معناه على هذا القول : أولم نعمركم حتى شبتم ، وقيل : هو القرآن ، وقيل : الحمى . وابن جرير
قال الأزهري : معناه : أن الحمى رسول الموت أي : كأنها تشعر بقدومه ، وتنذر بمجيئه ، والشيب نذير أيضا ، لأنه يأتي في سن الاكتهال ، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب ، وقيل : هو موت الأهل والأقارب ، وقيل : هو كمال العقل ، وقيل : البلوغ فذوقوا فما للظالمين من نصير أي : فذوقوا عذاب جهنم ، لأنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا ، فما لكم ناصر يمنعكم من عذاب الله ، ويحول بينكم وبينه .
قال مقاتل : فذوقوا العذاب ، فما للمشركين من مانع يمنعهم .
إن الله عالم غيب السماوات والأرض قرأ الجمهور بإضافة عالم إلى غيب ، وقرأ جناح بن حبيش بالتنوين ونصب ( غيبا ) .
والمعنى : أنه عالم بكل شيء ومن ذلك أعمال لا تخفى عليه منها خافية ، فلو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا كما قال - سبحانه - : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه [ الأنعام : 28 ] إنه عليم بذات الصدور تعليل لما قبله ، لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى من كل شيء علم ما فوقها بالأولى ، وقيل : هذه الجملة مفسرة للجملة الأولى .
هو الذي جعلكم خلائف في الأرض أي : جعلكم أمة خالفة لمن قبلها .
قال قتادة : خلفا بعد خلف ، وقرنا بعد قرن ، والخلف : هو التالي للمتقدم ، وقيل : جعلكم خلفاءه في أرضه فمن كفر منكم هذه النعمة فعليه كفره أي : عليه ضرر كفره ، لا يتعداه إلى غيره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا أي : غضبا وبغضا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا أي : نقصا وهلاكا ، والمعنى : أن الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيدهم إلا المقت ، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يزيدهم إلا الخسار .
ثم أمره - سبحانه - أن يوبخهم ويبكتهم فقال : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أي : أخبروني عن الشركاء الذين اتخذتموهم آلهة وعبدتموهم من دون الله ، وجملة أروني ماذا خلقوا من الأرض بدل اشتمال من أرأيتم ، والمعنى : أخبروني عن شركائكم ، أروني أي شيء خلقوا من الأرض ؟ وقيل : إن الفعلان ، وهما أرأيتم و أروني من باب التنازع .
وقد أعمل الثاني على ما هو اختيار البصريين ، أم لهم شرك في السماوات أي : أم لهم شركة مع الله في خلقها أو ملكها أو التصرف فيها حتى يستحقوا بذلك الشركة في الإلهية أم آتيناهم كتابا أي : أم أنزلنا عليهم كتابا بالشركة فهم على بينة منه أي : على حجة ظاهرة واضحة من ذلك الكتاب .
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وحفص عن عاصم بينة بالتوحيد ، وقرأ الباقون بالجمع .
قال مقاتل : يقول هل أعطينا كفار مكة كتابا ، فهم على بيان منه بأن مع الله شريكا .
ثم أضرب - سبحانه - عن هذا إلى غيره فقال : بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا أي : ما يعد الظالمون بعضهم بعضا كما يفعله الرؤساء والقادة من المواعيد لأتباعهم إلا غرورا يغرونهم به ويزينونه لهم ، وهو الأباطيل التي تغر ولا حقيقة لها ، وذلك قولهم : إن هذه الآلهة تنفعهم وتقربهم إلى الله ، وتشفع لهم عنده .
وقيل : إن الشياطين تعد المشركين بذلك ، وقيل : المراد بالوعد الذي يعد بعضهم بعضا هو أنهم ينصرون على المسلمين ويغلبونهم .
وجملة إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا مستأنفة لبيان بعد بيان ضعف الأصنام وعدم قدرتها على شيء ، وقيل : المعنى : إن شركهم يقتضي زوال السماوات والأرض كقوله : قدرة الله - سبحانه - ، وبديع صنعه تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا [ مريم : 91 92 ] ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده أي : ما أمسكهما من أحد من بعد إمساكه ، أو من بعد زوالهما ، والجملة سادة مسد جواب القسم والشرط ، ومعنى أن تزولا لئلا تزولا ، أو كراهة أن تزولا .
قال : المعنى أن الله يمنع السماوات والأرض من أن تزولا ، فلا حاجة إلى التقدير . الزجاج
قال الفراء أي : ولو زالتا ما أمسكهما من أحد ، قال : وهو مثل قوله : ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون [ الروم : 51 ] وقيل : المراد زوالهما يوم القيامة ، [ ص: 1216 ] وجملة إنه كان حليما غفورا تعليل لما قبلها من إمساكه - تعالى - للسماوات والأرض .
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم المراد قريش ، أقسموا قبل أن يبعث الله محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذا القسم حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم ، ومعنى من إحدى الأمم يعني : المكذبة للرسل ، والنذير : النبي ، والهدى : الاستقامة ، وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كان الرسل في بني إسرائيل فلما جاءهم ما تمنوه وهو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي هو أشرف نذير وأكرم مرسل وكان من أنفسهم ما زادهم مجيئه إلا نفورا منهم عنه ، وتباعدا عن إجابته .
استكبارا في الأرض أي : لأجل الاستكبار والعتو " و " لأجل مكر السيئ أي : مكر العمل السيئ ، أو مكروا المكر السيئ ، والمكر هو الحيلة والخداع والعمل القبيح ، وأضيف إلى صفته كقوله : مسجد الجامع ، وصلاة الأولى ، وأنث إحدى لكون أمة مؤنثة كما قال الأخفش .
وقيل : المعنى : من إحدى الأمم على العموم ، وقيل : من الأمة التي يقال : لها إحدى الأمم تفضيلا لها .
قرأ الجمهور ومكر السيئ بخفض همزة السيئ ، وقرأ ، وحمزة بسكونها وصلا . الأعمش
وقد غلط كثير من النحاة هذه القراءة ، ونزهوا على جلالته أن يقرأ بها ، قالوا : وإنما كان يقف بالسكون ، فغلط من روى عنه أنه كان يقرأ بالسكون وصلا ، وتوجيه هذه القراءة ممكن ، بأن من قرأ بها أجرى الوصل مجرى الوقف كما في قول الشاعر : الأعمش
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
بسكون الباء من أشرب ، ومثله قراءة من قرأ " وما يشعركم " [ الأنعام : 109 ] بسكون الراء ، ومثل ذلك قراءة أبي عمرو " ( إلى بارئكم ) [ البقرة : 54 ] بسكون الهمزة ، وغير ذلك كثير .
قال أبو علي الفارسي : هذا على إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقرأ ( ومكرا سيئا ) ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله أي : لا تنزل عاقبة السوء إلا بمن أساء . ابن مسعود
قال الكلبي : يحيق بمعنى يحيط ، والحوق الإحاطة ، يقال : حاق به كذا إذا أحاط به وهذا هو الظاهر من معنى يحيق في لغة العرب ، ولكن قطربا فسره هنا بينزل ، وأنشد :
وقد رفعوا المنية فاستقلت ذراعا بعد ما كانت تحيق
أي : تنزل فهل ينظرون إلا سنة الأولين أي : فهل ينتظرون إلا سنة الأولين أي : سنة الله فيهم بأن ينزل بهؤلاء العذاب كما نزل بأولئك فلن تجد لسنة الله تبديلا أي : لا يقدر أحد أن يبدل سنة الله التي سنها بالأمم المكذبة من إنزال عذابه بهم بأن يضع موضعه غيره بدلا عنه ولن تجد لسنة الله تحويلا بأن يحول ما جرت به سنة الله من العذاب فيدفعه عنهم ويضعه على غيرهم ، ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما .
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم هذه الجملة مسوقة لتقرير معنى ما قبلها وتأكيده أي : ألم يسيروا في الأرض فينظروا ما أنزلنا بعاد وثمود ومدين وأمثالهم من العذاب لما كذبوا الرسل ، فإن ذلك هو من سنة الله في المكذبين التي لا تبدل ولا تحول ، وآثار عذابهم وما أنزل الله بهم موجودة في مساكنهم ظاهرة في منازلهم " و " الحال : أن أولئك كانوا أشد منهم قوة وأطول أعمارا وأكثر أموالا وأقوى أبدانا وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض أي : ما كان ليسبقه ويفوته من شيء من الأشياء كائنا ما كان فيهما إنه كان عليما قديرا أي : كثير العلم وكثير القدرة لا يخفى عليه شيء ولا يصعب عليه أمر .
ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا من الذنوب وعملوا من الخطايا ما ترك على ظهرها أي : الأرض من دابة من الدواب التي تدب كائنة ما كانت ، أما بنو آدم فلذنوبهم ، وأما غيرهم فلشؤم معاصي بني آدم .
وقيل : المراد ما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب من بني آدم والجن ، وقد قال بالأول ، ابن مسعود وقتادة ، وقال بالثاني الكلبي .
وقال ، ابن جريج والأخفش ، : أراد بالدابة هنا الناس وحدهم دون غيرهم ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة والحسين بن الفضل فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا أي : بمن يستحق منهم الثواب ومن يستحق منهم العقاب ، والعامل في إذا ، هو : جاء لا بصيرا ، وفي هذا تسلية للمؤمنين ووعيد للكافرين .
وقد أخرج ، عبد الرزاق ، ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن عن في قوله : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر قال : ستين سنة . ابن عباس
وأخرج في نوادر الأصول ، الحكيم الترمذي ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عنه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وفي إسناده إذا كان يوم القيامة قيل : أين أبناء الستين ؟ وهو العمر الذي قال الله : إبراهيم بن الفضل المخزومي ، وفيه مقال .
وأخرج أحمد ، ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، والنسائي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أبي هريرة أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة .
وأخرج ، عبد بن حميد ، والطبراني والحاكم ، وابن مردويه عن مرفوعا نحوه . سهل بن سعد
وأخرج عن ابن جرير قال : العمر الذي عيرهم الله به ستون سنة . علي بن أبي طالب
وأخرج الترمذي ، ، وابن ماجه والحاكم ، وابن المنذر ، والبيهقي عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أبي هريرة أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك .
قال الترمذي بعد إخراجه : حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ثم أخرجه في موضع آخر من كتاب الزهد ، وقال : هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن ، وقد روي من غير وجه عنه . أبي هريرة
[ ص: 1217 ] وأخرج ، ابن جرير وابن مردويه عن في هذه الآية قال : هو ست وأربعون سنة . ابن عباس
وأخرج عنه أيضا قال : العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم فيه بقوله : ابن جرير أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر أربعون سنة .
وأخرج أبو يعلى ، ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم في الإفراد ، والدارقطني وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات والخطيب في تاريخه عن قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول على المنبر : أبي هريرة موسى هل ينام الله - عز وجل - ؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة ، وأمره أن يحتفظ بهما ، فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى ، حتى نام نومة ، فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان . قال : ضرب الله له مثلا إن الله - تبارك وتعالى - لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض وقع في نفس . قال
وأخرج من طريق ابن أبي حاتم أن عبد الله بن سلام موسى قال : يا جبريل هل ينام ربك ؟ فذكر نحوه .
وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه أن موسى ، فذكر نحوه .
وأخرج ، الفريابي وابن المنذر ، ، والطبراني والحاكم وصححه عن قال : إنه كاد الجعل ليعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم الآية . ابن مسعود